جندر

فهم النوع الاجتماعي “الجندر”(6)

ولكن ما يهدف إليه (الجندر) هو ان لا تكون هذه الخصائص البيولوجية أساسا للتمييز بين الجنسين في المكانة الاجتماعية ومن ثم الانتقاص من الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية، لقد التصقت مفردة (جندر) بالنساء لانهن وفي مختلف بلدان العالم وعبر التاريخ تعرضن للتمييز السلبي وهو تمييز له تجلياته في مختلف الثقافات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية، مما جعلهن ولاسباب موضوعية في حاجة ماسة لمفهوم(الجندر) لكي يتحررن ويحققن العدالة، ولكن من الناحية المفهومية فإن (الجندر) يشمل الرجال كذلك، باعتباره يسعى للعدالة والمساواة. 

وعبر هذه السلسلة ننشر هذا الكتيب وهو من تأليف كاملا بهاسين، قامت بالترجمة الاولية الدكتورة فايزة نقد، و قام بترجمته النهائية وتحريره ومراجعته الاستاذ عبد المنعم الجاك ونشر بواسطة مركز سالمة لمصادر ودراسات المرأة.  

 

*هل يمكن إرجاع بعض صور تقسيم العمل على أساس النوع الاجتماعي «الجندر » إلى الأوضاع الاجتماعية؛ لأن المرأة تظل حبيسة المنزل، والرجل يتعامل مع العالم الخارجي؟

هذا سؤال مهم ومعقد، لذا من الصعب إعطاء إجابة شافية. فأولاً نحتاج إلى فهم الثنائية

الخاصة لما يعرف بالمجال الخاص والمجال العام. حيث يُتوقع من المرأة أن تبقى في المجال الخاص،

بينما يعمل الرجال في المجالات العامة، إلى جانب سيطرتهم على المجالات الخاصة. وإذا عدنا إلى

تاريخ هذه الثنائية – المجالين العام والخاص – نجد أنه قبل الثورة الصناعية لم يكن هناك فرق بين

هذين المجالين بشكل واضح. حيث كان أغلب الإنتاج يتم داخل مجال الأسرة ويشارك فيه جميع

أعضاء الأسرة، نساء ورجالاً. فالجميع كانوا يكسبون قوتهم المشترك

بناءً على التعاون والتكامل بين الرجال والنساء، مما جعل الأسرة

تعتبر مجالاً للإنجاب والإنتاج معاً. وقد كان هناك تقدير

عالٍ للمرأة ولمهارتها ومعرفتها، إضافة لمقدرتها على إنجاب

الأجيال التالية لمواصلة الحياة. وفي معظم جوانبه كان هذا

النظام يتمحور حول المرأة بسبب الدور المهم الذي كانت

تلعبه في الاقتصاد المنزلي. وخلال حقبة استعمار أمريكا

شاع استعمال اصطلاح المرأة–الزوج، أي المرأة التي تدير

وترعى وتتحكم في الشؤون الزوجية. وقد جاءت نهاية

تلك الحقبة بالتحول إلى اقتصاد السوق والتحول الكبير في

الصناعات، وهو ما أفسد الوحدة بين المجالين الخاص والعام، والانسجام بين الإنسان والطبيعة.

فالإنتاج أصبح أمراً خارج الاحتياج المعيشي،  بغرض التسويق وتحقيق الأرباح. وتدريجياً

تحوَّل الإنتاج من المنزل إلى المصانع والشركات التجارية وغيرها من مؤسسات، وأصبح الإنتاج التسويقي يشكل قوى تسيطر على معايش الناس أكثر من ضرورة وجودة الطبيعية. وقد تبعت ذلك التحول، بالضرورة، تحولات أخرى في العلاقات. حيث انتقل الرجل، كرجل للاقتصاد، من المنزل

بينما بقيت المرأة، كربة للمنزل، بداخل المنزل. أيضاً، أتيح للأولاد الذهاب إلى المدارس والجامعات للحصول على المعرفة والمهارات للعمل في المجال العام خارج المنزل، بينما قبعت البنات بالمنزل يكتسبن مهارات لا تتيح لهن الخروج من المجال المنزلي الخاص. وقد رَصدَت كلٌّ من باربرا هرينريش

Barbara Ehrenerich( ( وديرا انجليش ) Deira English ( هذه التحولات، مركِّزتين على وضعالمرأة قبل التحول الصناعي. حيث:

)لم تكن فقط مهارات المرأة الإنتاجية هي السبب في أهميتها الاجتماعية في

النظام القديم. فقد كانت المرأة هي مَن تصرف الأعشاب للتداوي، وتغني

الأغنيات التي تبعد الحمى عن الطفل، وتجهز الاحتياطات التي يجب اتخاذها

عند الحمل. وإذا ما كانت لدى المرأة مهارات خاصة، فقد أصبحت أيضاً مَن

تُولِّد النساء – الدَّايَة – ومَن تُداوي بالأعشاب، وهي العرّافة التي تنتشر سمعتها

من منزل إلى آخر ومن قرية إلى أخرى. وقد كان متوقعاً حينها من كل النساء أن

يكنّ قد تعلمن من أمهاتهن وجدّاتهن مهارات تربية الأطفال وعلاج الأمراض

الشائعة وتمريض المرضى() 62 (.

أما ما حدث بعدها في أوروبا، نتيجة لاقتصاد السوق والتصنيع، فهو ذاته ما حدث في

جنوب شرق آسيا. حيث تحوَّل الاقتصاد من اقتصاد أسرة، كما تحول التعليم أيضاً. ففي السابق كان

أغلب الناس يحصلون على المعرفة والمهارات الإنتاجية من داخل الأسرة، ولا يزال الإنتاج، حتى الآن،

وسط بعض القبائل وسكان الغابات في المناطق النائية في جنوب آسيا، محتفظاً بشكله الواسع داخل

الوسط الأسري. وعادة ما يُخَصَّص جزء من فائض الإنتاج للتبادل ببعض السلع التي لا ينتجونها في

نظامهم الإنتاجي. والملاحظة المهمة أنه في كل الأحوال يتشارك الرجال والنساء في معظم الأنشطة

المنزلية، وليس هناك إلا القليل الذي لا يذكر في التمييز بين المجال الخاص والعام.

وبالمقارنة ببعض الطبقات والمجتمعات الأخرى، نجد أنه لا يوجد عدم المساواة بين الرجال

والنساء أيضاً. إلا أنه تدريجياً أصبحت هذه المجتمعات تندمج في اقتصاد السوق، الأمر الذي أكسبها

«الأبوية ». وتقول أليسون م. جاقار ) :)Alison M. Jagdar

)نتيجة للتغيرات التي طرأت على أنماط الإنتاج، تحوّل المنزل من مكانته كمركز

لعملية الإنتاج، ليصبح ملجأ من الإنتاج الاقتصادي، أو كما يقال الجنّة التي

يُستراح فيها من إرهاق وقسوة العالم الخارجي، أو الملجأ المثالي من قسوة

المدينة. وفي ظل هذا التحول، بقيت عملية الإنجاب كنشاط إنتاجي داخل

المنزل. وفقدت بذلك إدارة المنزل والأسرة طابعها العام الذي يُعنى به الجميع،

حيث لم تعد هماً للمجموعة أو المجتمع، لتصبح قاصرة على الزوجة. فتحولت

إدارة المنزل لتصبح أمراً خدمياً خاصاً، أو كما سماها فريدريك إنجلز ) Fredrick

Engles (، عندما تصبح الزوجة رئيسة الخدم، مُبعدة من المشاركة في الإنتاج

الجماعي() 72 (.

ومرة أخرى تذكرنا باربرا هرينريش ) Barbara Ehrenreich ( وديرا إنجليش ) Deira

English ( بالتحولات في أنماط الإنتاج، وتأثير ذلك في علاقات النساء والرجال، وظهر التمييز بين ما

عُرف بالمجال الخاص والمجال العام. حيث ذكرتا في ظل هذه التحولات:

)أن المهارات الإنتاجية التقليدية للنساء، كالنسيج، وإنتاج الملابس والأغذية،

قد انتقلت إلى النظام الصناعي. وقد تتابع بعض النساء من الطبقات العاملة

أعمالهن السابقة في النظام الصناعي الجديد، إلا أنهن في ظل هذا النظام لن

يتحكمن في عملية الإنتاج. وبالتالي، سيفقدن مهاراتهن القديمة. وبمرور الزمن

فإنه حتى المهارات الخاصة للنساء في التمريض والمعالجة ستتحول إلى سلعة

وتدخل في نظام السوق، ويحل مكان الدواء العشبي الذي تم تحضيره منزلياً

منتج آخر كيمائي تنتجه شركات الأدوية متعددة الجنسيات، كما يتم إحلال من

يقمن بتوليد النساء – الدايات – بالجراحين() 82 (.

إن التمييز بين المجال الخاص والمجال العام يفتح آفاقاً وفرصاً أمام الرجال، وفي المقابل فإنه

يحد من إمكانات وفاعلية النساء. وبطريقة ما يشير التمييز بين الخاص والعام، كمجالين مجتمعيين

مختلفين، إلى نهاية مفهوم الأسرة المتمركزة حول الأم. والنتيجة الأخرى من التمييز بين الخاص والعام

هو الإبعاد أو العزلة النسبية التي لحقت بالمرأة. حيث أدى هذا إلى إبعاد المرأة عن المجتمع، وما

نتج عنه من فصلها عن النساء الأخريات والرجال.

لكن، هل هذا الفصل بين العام والخاص هو ما أدى إلى تعميق عدم المساواة بين الرجال

والنساء؟

نعم، أدى التمييز بين العام والخاص إلى تعميق اللامساواة. فمع الفصل بين المجال العام والمجال

الخاص تطوَّر التراتب الاجتماعي بينهما. وبذلك فقَدَ الفضاء الأسري أو الخاص كل أهميته الاقتصادية

والسياسية والتاريخية، وفقَدَ تدريجياً أهمية تأثيره في الحياة. فما ينتج في الفضاء الأسري أو المجال

الخاص أصبح لا يدخل السوق؛ لأنه لا يعتبر إنتاجاً أو عملاً. والذين لا ينخرطون في اقتصاد السوق

ليس لهم وزن اقتصادي لعدم تقدير ما ينتجونه. ولأن النساء بقين داخل الاقتصاد المنزلي فاقدات

الأهمية، فقد أصبحن بذلك فاقدات لدورهن المركزي وليس لهن قيمة تذكر. وبالمقابل، أصبح عمل

الرجل أكثر أهمية، وتزايدت الفجوة بين الرجال والنساء، وأصبحت سلطة الرجل والنظام «الأبوي »

أكثر رسوخاً. فبعد أن كانت الأسرة تتمحور حول الأم، وتمثل بالطبع الفضاء العام، أصبح الرجل هومحورها وتخضع لتحكمه.

ونجد أن القيم الأساسية والتي تحكم الفضاء المنزلي الخاصة والفضاء العام قد انفصلت

أيضاً بشكل عميق، بل يمكن القول بأنها أصبحت متعارضة. فبينما تُقَدَّر في المجال الأسري الخاص قيم

الحب والرعاية، ونكران الذات، والتفهم، نجد أن المجال العام يتطلب ويثبت فيه التنافس، والطموح

والعدوانية والأنانية. ولتلطيف هذه القسوة في الفضاء العام، فإن النساء يتوقع منهن توفير الظروف المريحة للرجال في الأسرة بعد عناء قسوة مكان العمل والسوق.

وإذا ما تحدثنا عن القيم الأساسية الأخرى ومدى توافرها في الفضاء العام، فإن الأخلاقيات

المستمدة من الأديان، مثلاً، لم يعد لها مكان في الاقتصاديات والعلوم والتكنولوجيا. وقد أوضحت

كل من باربرا هرينريش ) Barbara Ehrenreich ( وديرا انجليش ) Deira English ( هذا الاختلال

بصورة جيدة، موضحتين:

)هذا التنظيم الجديد للعالم لا يجب تخيُّله فقط كقولبة قائمة على حدود

محايدة التقسيم. فالفضاءان، أو المجالان العام والخاص، يقفان على طرفي النقيض، في ما يتعلق بالقيم الأساسية، والخط الفاصل بينهما مشدود بشحنة

أخلاقية. ففي الجوانب والنشاطات الأساسية لنظام السوق، بما فيها قيمه، نجده يتحدى قروناً من الأخلاقيات الدينية المتمثلة في الصدق ونكران الذات ونبذ الجشع. وإذا ما قارنا

نظام السوق بالنظام التجاري القديم، نجد أن التجارة حينها صُبغت بعدم الأمانة، ووُصف قرض المال بالأرباح القائمةعلى المراباة الفاحشة. أما أخلاقيات السوق التي تشرَّبت من النظام الجديد، فنجدها تزيح كل القيم الأخلاقية بلا مبالاة وبرود تام. حيث تفرض أخلاق

السوق أنه ليس بالإمكان تحقيق الربح إلا لإفقار آخرين، وليس هناك مجال للعواطف الإنسانية، أو الكرم أو الولاء(.

*مما ذكرتِ حتى الآن، يبدو أنه كلما كان الفصل بين الفضاء الخاص والفضاء العام كبيراً؛

تدنَّت أوضاع النساء أكثر. هل يمكن أن يكون هذا الاستنتاج صحيحاً؟

استناداً على عدد من مؤرّخات الحركة النسوية يبدو هذا الاستنتاج صحيحاً. فالملاحظة

العامة؛ أن النساء لهنّ دَور مُسَاوٍ في المجتمعات التي يكون فيها الإنتاج أسرياً، والتي تشهد فصلاً محدوداً أو ضعيفاً بين المجالات المنزلية الخاصة والعامة. حيث نجد أن ثنائية الخاص/ العام كمجالين للحياة، تقوم في أساسها على وجود نمطين للإنتاج وللنظام الاقتصادي، وفي كليهما تلعب النساء أدواراً مختلفة تماماً. وعلى ضوء هذا الاختلاف في علاقة النساء بالعمل والإنتاج والممتلكات يتم تحديد مكانتهن في المجتمع. وتعضِّد هذا الرأيَ النسوياتُ الاشتراكيات اللاتي يرين أن الوضع الثانوي للنساء يمكن تتبعه تاريخياً من خلال الاقتصاد، وذلك للتثبُّت من أن النساء كمجموعة ظلت لديهن علاقة محددة بالإنتاج والملكية في كل المجتمعات تقريباً. ويمكن بهذا المنظور أيضاً تتبع المميزات الشخصية

والسيكولوجية للمكانة الثانوية للمرأة من زاوية الإنتاج والعمل.

أما جوان كيلي ) Joan Kelly ( فترى أنه:

)بالرغم من أن ما يشكِّل المجال المنزلي الخاص والمجال العام يختلف من ثقافة

إلى أخرى، وتوجد خطوط فاصلة بينها، إلا أن هناك نمطاً ثابتاً ينبثق عندما توضع

المجتمعات في تدرُّج تُدمج فيه الأنشطة الأسرية والعامة في مرحلتها الأولى،

ومن ثم في مرحلتها الثانية تبرز الفواصل الحادة بين الأنشطة المنزلية والعامة.

وفي ظل هذه التحولات عند تطابق الأنشطة الأسرية مع الأنشطة العامة أو

الاجتماعية، يصبح وضع النساء مماثلاً لوضع الرجال، بل يتفوق عليهم في بعض

الأحايين. ويتفق هذا النموذج إلى حد كبير مع أفكار فريدريك إنجلز الذي يرى

أنه، في مثل هذه الأوضاع، تصبح وسائل المعيشة والإنتاج ملكية عامة، والعائلة

المشاعية تصبح النقطة المركزية، سواءٌ أفي الحياة الأسرية أم الحياة الاجتماعية.

وفي ظل مثل هذه الأوضاع تكاد تنعدم صور عدم المساواة بين الجنسين. وهي

الأوضاع التي تشهد فيها المجتمعات إنتاجاً سلعياً طفيفاً، ولم تشهد تطوراً لصيغ

الملكية الخاصة أو أشكال عدم المساواة الطبقية.

وإذا نظرنا في مثل هذه الأوضاع، فالنساء يُعتبرن من المنتجات الفاعلات، إلا

أنهن سرعان ما يبدأن في فقدان السيطرة على الممتلكات والمنتجات بتزايد

إنتاج ما يعرف ب »فائض الإنتاج »، وتطوُّر الملكية الخاصة، وتحوُّل جماعية

الأسرة إلى وحدة اقتصادية خاصة، سواءٌ أكانت ممتدة أم نووية، تدار في كل

الأحوال بواسطة الرجل. وتشهد الأسرة، مركز هذه التحولات والمجال الرئيسي

لأنشطة المرأة، تحولَها الأساسي؛ بالخضوع للنظام الاجتماعي العام الذي تحكمه

الدولة التي يتحكم فيها الرجل، ويعتبر هذا النموذج العام هو ما ينتج من

عملية التحولات هذه، وهو ما تم تقديمه تاريخياً في ما يُعرف ب »المجتمعات

المتح ضر ضرة 92()» (.ّّ

هل هذا الفصل بين الخاص والعام يؤدي إلى إخفاء ما يحدث داخل الأسرة، ويصعب من

مواجهة عدم المساواة والصراعات داخل الأسرة؟

بالتأكيد هذا صحيح، وفي حقيقة الأمر يوجد جدل مستمر وسط العديد من المفكرين

السياسيين، مفاده؛ ألا يكون للدولة رأي تقوله في الفضاء الخاص، خاصة الأسرة. ويرى هؤلاء المفكرون أن المنزل والعلاقات بين أفراد الأسرة يجب أن تُستثنى من القواعد الحكومية، وأن كل ما يحدث بين جدران المنزل يعتبر أمراً شخصياً، ولا يستحسن أي تدخل خارجي. وبهذا التستر أصبح عدم المساواة الصارخ، والاعتداءات الخطيرة على النساء، مسموحاً لها بالاستمرار داخل الفضاء الأسري. حيث يلاحظ أن ضرب الزوجة، والاغتصاب في العلاقات الجنسية الزوجية، وانتهاك المحارم؛ من اغتصابٍ للبنات بواسطة الآباء أو الأقرباء من الرجال، والتعذيب النفسي والجسدي للبنات والنساء، إضافة إلى الحرمان العام الذي تعيشه الفتيات، وغيرها من ممارسات لا تزال تمارس بصور غير ظاهرة وتعدّ

من الأمور المسكوت عنها.

كما تعاني النساء اللائي يمارسن عملاً أو أنشطة إنتاجية خارج المنزل من مشكلة الفصل بين

الأعمال المنزلية والنشاطات والأعمال العامة. فالوظائف التي يقمن بها خارج المنزل غالباً ما تتطلب

قدراً من الاستقلالية، والحركة، والتنافس، وساعات أطول في العمل. بينما تتطلب الأعمال والأنشطة

الأسرية النقيضَ من ذلك؛ التبعية شبه الكاملة، والخدمة المستمرة، والتعاون. وبالتالي، فإن عشرات النساء العاملات يعانين من هذه المتطلبات المتناقضة، وعن صعوبة الجمع بين متطلبات الزوجة الفاضلة ومواصفات المسؤولة الفاعلة، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من التوترات والضغوط الجسدية والنفسية والعاطفية. وفي المقابل لذلك، لا يجد الرجال أنفسهم في مثل هذا التناقض في متطلبات طبيعة الأعمال، لأنهم لا يعيشون تجربة ضرورة الجمع بين الزوج الفاضل والمسؤول الفاعل. هذا الفصل الحاد بين ما يُعرف بالفضاء الخاص والفضاء العام مثّل مصدراً للانتقاد المستمر

من قبل الناشطات في مجالات العمل النسوي. بل نجدهن قد واجهن هذا الفصل منطلقات من أن مثل هذا الفصل يشجع ويدعم سيطرة الرجل، مما يفاقم من أزمة اللامساواة. ولمواجهة الازدواجية

الناتجة عن الفصل بين العام والخاص، صاغت هؤلاء الناشطات شعار «ما هو شخصي وسياسي »، وهو الشعار الذي على أساسه أبرزن لعامة الناس أن العمل والنشاط المنزلي هو الفضاء أو المجال الذي تواجه فيه النساء الأشكال المختلفة من الخضوع والاضطهاد.

لا صمت بعد الآن على العنف المنزلي!!.

*هل يوجد اختلاف بين المصطلحات المستخدمة لعكس الوضع المتد ني للمرأة، مثل الاضطهاد، والاستغلال، والخضوع؟

بالرغم من ان هذه المفاهيم أو المصطلحات تستخدم استخداماً مطلقاً، ويُحَلُّ أحدُها

محلَّ الآخر، إلا أنه في حقيقة الأمر توجد اختلافات بينها. وما أود أن أوضحه في البدء، أن المصطلحات

مثل الاضطهاد والخضوع تعكس وجود اضطهاد وخضوع قائم على أساس النوع الاجتماعي «الجندر ،»

ولكن دون تحديد للنوع الاجتماعي الواقع عليه فعل الاضطهاد أو الخضوع. وبالرغم من أن النساء

عموماً هن من يقع عليهن الاضطهاد، ويعتبرن الطرف الخاضع، فبرغم عمومية الدلالة عند استخدام

مصطلحات الاضطهاد والخضوع القائم على النوع الاجتماعي «الجندر » إلا أن هذه المصطلحات

تعود في الأساس إلى النساء.

أما مصطلح الاستغلال فهو يستخدم عادة من منطلقه الماركسي، ويعني الاستغلال

الاقتصادي أو انتزاع فائض القيمة. وعليه، يعني استغلال النساء؛ أنهن خلقن لتوفير الخدمات

الاقتصادية بأجر منخفض أو دون أجر حتى من مثل هذه العلاقة. وإذا تناولنا مصطلحاً آخر

مثل الاضطهاد، فعادة ما يستخدم لعكس وضع تبعية النساء، أو السيطرة عليهن بواسطة الرجال.

وعموماً، يشير المصطلح إلى النظام التاريخي المؤسسي، القائم على التخطيط لاستفادة مجموعة ما

على حساب مجموعة أو مجموعات أخرى. فهو يدل ضمنياً على اضطهاد جبري، ويستخدم لوصف

أوضاع الأفراد والمجموعات، كما هو الحال في الاضطهاد الطبقي، أو الاضطهاد الطائفي أو الاضطهاد

العرقي.

وإذا نظرنا إلى مصطلح الخضوع، فهو يعني وضع الشخص في حالة أو وضع متدنٍّ عن

شخص آخر، أو حالة الوقوع تحت سيطرة شخص آخر، ومصطلح خضوع النساء يشير مباشرة إلى

وضعهن المتدني، وعدم قدرتهن في الحصول على الممتلكات أو اتخاذ القرارات. كما يدل المصطلح على

السيطرة «الأبوية » التي تتعرض لها النساء في معظم المجتمعات.

ومن ناحية أخرى، تختلف بعض الباحثات في مجالات العمل النسوي كثيراً حول تعريفات

هذه المصطلحات. فمثلاً، جيردا ليرنر ) Gerda Lerner ( ترى أن مصطلح الاضطهاد غير ملائم،

وتقول:

)ليس ملائماً أن نَصِف السيطرة الأبوية ب »الاضطهاد ». فهي من ناحية تحتوي

على أشكال من الاضطهاد، ولكنها أيضاً تحتوي على مجموعة من الالتزامات

المتبادلة التي لا تعبر  بصفة دائمة عن أشكال الاضطهاد. فكلمة «اضطهاد »

تركِّز في الأساس على معنى الخطأ الواقع، وهي غير موضوعية في تعبيرها عن

وعي المجموعة المضطهَدة. وتعني ضمنياً الصراع على السلطة أو النفوذ، كما

تعني الهزيمة الناتجة من هيمنة مجموعة على أخرى. والنساء، أكثر من أي

مجموعات أخرى، يتعاونّ في الظهور كمجموعة مضطهَدة من خلال قبولهن

النظام القائم على التقسيم النوعي والجنسي. وبهذا؛ فالنساء يَطبعن في داخلهن

القيم التي تجعلهن مضطهَدات، إلى الدرجة التي تجعلهن يتبنَّين الاضطهاد

كقيمة في تنشئة الأطفال. ونجد أن بعض النساء يُضطهدنَ في مرحلة من مراحل

حياتهن بواسطة الآباء أو الأزواج، بينما في مراحل أو أوجه أخرى نجدهن

يمارسن السلطة والاضطهاد على نساء أخريات، أو في بعض الأحايين على الرجال.

مثل هذه التعقيدات، عند النظر إلى مفهوم الاضطهاد، تصبح غير مرئية عندما

يستخدم مصطلح الاضطهاد لوصف حالة النساء كمجموعة() 03 (.

وتضيف ليرنر قائلةً، حول مفهوم آخر، إنها تعتقد أن مصطلح «خضوع النساء » يتضمن

مميزات محددة. فمفهوم الخضوع لا يحمل دلالة على نوايا شريرة من جانب المهيمِن. بقدر ما

يسمح باحتمال التوافق بين المهيمن وبين مَن يقع عليه فعل الخضوع. وقد يكون ذلك مقابل

الحماية والامتيازات الخاصة. وهي حالة تمثل بوضوح خلال تجارب المرأة تاريخياً. وتستخدم ليرنر

مصطلح «الهيمنة الأبوية »، وترى أن لها ميزات إضافية عن مصطلح «الاضطهاد »، الذي ينطوي على

الهيمنة الأبوية، ولكنه يبدو أكثر حيادية في ما يتعلق بأسباب الخضوع نفسه. فالعلاقات المعقدة

للنوع الاجتماعي «الجندر » وللجنس بين الرجال والنساء، عبر خمسة آلاف عام، لا يمكن أن تُعزى

لسبب بسيط وهو شراهة الرجل إلى السلطة. وعليه، من الأفضل أن نستخدم ألفاظاً ومصطلحاتٍ

غير قيمية، لنستطيع وصف العلاقات المتعددة والمتفاوتة للنوع الاجتماعي «الجندر » بالجنس، والتي

صيغت بواسطة الرجال والنساء في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة) 13 (.

أما مصطلح الحرمان فهو يُستخدم أحياناً للتعبير عن وضع النساء، إلا أنه يعتبر غير ملائم؛

لإخفائه العلاقات السلطوية الموجودة. فالحرمان مباشرةً يعني؛ الغياب الملحوظ للتفوق والامتيازات.

كما أنه يتمركز حول الممنوع وليس حول الذي يمارس المنع. والحرمان يمكن أن يكون سببه فرد، أو

مجموعة من الناس، أو مؤسسات، أو بسبب الطبيعة والكوارث، أو اعتلال الصحة أو لأسباب أخرى

متعددة. وما دام وضع النساء يتفاوت من مجتمع إلى آخر، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى، فإنه يمكن

استخدام ألفاظ مختلفة لتناسب الوضع المحدد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى