جندر

فهم النوع الاجتماعي “الجندر”(7)

ولكن ما يهدف إليه (الجندر) هو ان لا تكون هذه الخصائص البيولوجية أساسا للتمييز بين الجنسين في المكانة الاجتماعية ومن ثم الانتقاص من الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية، لقد التصقت مفردة (جندر) بالنساء لانهن وفي مختلف بلدان العالم وعبر التاريخ تعرضن للتمييز السلبي وهو تمييز له تجلياته في مختلف الثقافات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية، مما جعلهن ولاسباب موضوعية في حاجة ماسة لمفهوم(الجندر) لكي يتحررن ويحققن العدالة، ولكن من الناحية المفهومية فإن (الجندر) يشمل الرجال كذلك، باعتباره يسعى للعدالة والمساواة. 

وعبر هذه السلسلة ننشر هذا الكتيب وهو من تأليف كاملا بهاسين، قامت بالترجمة الاولية الدكتورة فايزة نقد، و قام بترجمته النهائية وتحريره ومراجعته الاستاذ عبد المنعم الجاك ونشر بواسطة مركز سالمة لمصادر ودراسات المرأة.  

 

لماذا أصبحت قضايا النوع الاجتماعي «الجندر » لصيقة الصلة بحوارات قضايا التنمية؟

أخذت قضايا النوع الاجتماعي «الجندر » والتنمية قدراً كبيراً من النقاش خلال ال 10 –

15 سنة الأخيرة. حيث أقيمت العديد من المؤتمرات، والتدريبات، وورش العمل حول الموضوع. وأصبحت قضايا النساء والنوع الاجتماعي «الجندر » تجد اهتماماً خاصاً في قضايا التنمية، بعد أن كان التخطيط التنموي يُعنى بتطوير المجتمعات بصورة شاملة، إلا أنه لم يعمل على مساعدة النساء بل على العكس قد أضرّ بهن في عدة أوجه. ففي نهاية الستينيات وبداية السبعينيات تحديداً بدأت الأبحاث الخاصة بالنساء في أجزاء مختلفة من العالم تشير إلى تجاهل النساء في خطط التنمية. وقبل الاهتمام بتهميش المرأة في التنمية، خَلَت خطط التنمية من أيّ تمثيلٍ للفقراء. وهو ما نشأ عن افتراض المخطِّطين أن مشروعات التنمية تفيد كل أفراد المجتمعات تلقائياً، وهو الافتراض الذي ثبت خطؤه في كل مكان تقريباً. ففي الخمسينيات، عندما بدأت الدول المستقلة حديثاً في وضع خطط التنمية كان نموذجهم هو دول الغرب، أو ما يطلق عليه بلدان العالم الأول. حيث كان التفكير بأن التصنيع والزراعة الحديثة تقود إلى النمو والتطور، وعليه تم التركيز على أصحاب الصناعات، ومُلاك

الأراضي، أغنياء المزارعين ورجال الأعمال. إلا أن الاهتمام بذوي الدخل المحدود والنساء كان محدوداً، وظلت مساهمة النساء بالشؤون المنزلية وبالاقتصاد غير معترف بها ولا تُعطَى التقييم اللازم. وخلال العقد الأول للأمم المتحدة 1960 – 1970 م، وضح جلياً أن عائدات التنمية لا تصل إلى الأغلبية الفقيرة، وهو ما تجلى في ارتفاع نسب البطالة، وشح الغذاء، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء. وكنتيجة لهذه الحقائق، وللضغوط الممارسة على برامج التنمية من أسفل، تمت مراجعة أهداف التنمية وكيفية تحقيق أقصى استفادة منها خلال العقد الثاني للأمم المتحدة 1970 – 1980 م. وقد انعكس هذا التقييم والمراجعة في بلاد مثل الهند وبنغلاديش، حيث أُشرِكت المنظمات غير الحكومية والجمعيات

الأهلية، خاصة التي تعمل في الريف، والتي أكَّدت على أن تمثيل الفقراء والنساء في برامج التنمية يكاد يكون معدوماً. ومن هنا جاء ظهور ما يعرف ب »المشاركة الشعبية في التنمية »، و »المداخل من أسفل في التنمية « ،» إعادة توزيع النمو »، و »مدخل الاحتياجات الضرورية »، وغيرها من المداخل التي أصبحت أساسية في وضع خطط وبرامج التنمية الخاصة بالقضاء على الفقر. وبذات القدر، اتضح أن استفادة الأسرة من مشروعات التنمية لا تعني استفادة النساء بصورة متساوية، أو قد لا يستفدن بالمرة. وعلى هذا الأساس قُدمت وجهات نظر نسوية وضعت مصالح النساء واهتماماتهن في خطط وبرامج التنمية، وذلك بغرض تحويل علاقات النوع الاجتماعي «الجندر » القائمة على النظام «الأبوي » بجعلها متساوية. وقد أبرزت هذه المساهمات جملةً من الإحصائيات والبراهين عكست أن خطط التنمية الخاصة بفهم النوع الاجتماعي «الجندر » جاءت عمياء عموماً، متجاهلة النساء، ولتوقعاتهن، واحتياجاتهن ولرغباتهن. هذا التجاهل كان يعني أن عدم المساواة القائم بين النساء والرجال لم تتم معالجته تنموياً من ناحية، ومن ناحية أخرى أن عملية التنمية لا تضع اعتباراً لحركة النساء ومساهمتهن في التنمية، وبالتالي أدت برامج وخطط

التنمية إلى المزيد من التهميش للنساء وإضعاف إمكاناتهن. وقد أصبح واضحاً للجميع أن النساء لا يجدن الفرص في التعليم والتدريب، ولم تسهم التكنولوجيا في تحررهن من العمل الشاق، كما ظل التمييز والاعتقادات والأحكام المسبقة الخاطئة عنهن مستمرة.

 

*هل يمكن تقديم بعض الأمثلة لتوضيح هذه النقاط؟

 

بالطبع هناك العديد من الأمثلة لتوضيح ذلك. حيث تكاد تكون النساء في كل أنحاء العالم

يعملن فلاحات ومنتجات للغذاء. وبالرغم من ذلك، فإن مخططي التنمية وأصحاب القرار ظلوا

باستمرار يرفضون الاعتراف بإسهامات النساء في هذه المجالات. وهو ما يتضح جلياً حتى في لغتهم، فعندما يشيرون مثلاً إلى عملية الزراعة، نجدهم يستخدمون ضمائر تعود في كل الأحوال إلى المذكر،كالمزارعين مثلاً. ونتيجة لهذا التعامي تجاه دَور المرأة، كانت وما زالت خطط التنمية الزراعية وتطوير الريف تتجاهل وتزيد من تهميش النساء. حيث يلاحظ أن أغلب المعلومات والقروض الزراعية والبستانية، وقروض تربية الحيوان توجَّه نحو الرجال من المزارعين،على الرغم من ان النساء هن المنتج والمحرك الرئيسي في هذه المجالات. يضاف إلى ذلك أن برامج الإرشاد الزراعي تُدار بشكل شبه كامل بواسطة الرجال وتُوجَّه إلى الرجال، وخلافاً لذلك فإن النشاطات ذات العائد المادي للنساء ظلت تقليدية وغير معترف بها، كالحياكة والتطريز، وتحضير الغذاء، وبالرغم من أن مثل هذه الأنشطة توفر قدراً ضئيلاً من الدخل، إلا أنها خَلقت العديد من المفاهيم الخاطئة حول ماهية العمل الذكوري وماهية العمل الأنثوي.

أما عمليات التنمية الزراعية الكبيرة فنجدها تقتصر في كثير من الأحيان وبصورة شبه

كاملة على الرجال، بدءاً من اتخاذ القرارات حتى التنفيذ. ومثالاً لذلك، مشروعات التدريب والمزارع النموذجية للإرشاد الزراعي في الهند، والتي كان يتم تخطيطها وتمويلها بواسطة البنك الدولي خلال الثمانينيات حول إعادة زراعة الغابات في نيبال. حيث لم يذكر أي دور للنساء على الإطلاق، ولم يُشرَكن في إعادة زراعة الغابات والمشروعات المتصلة بها، أو في مشروعات إمداد المياه أو تخزين الحبوب أو أي من النشاطات الأخرى والتي تدار في الأساس بواسطتهن. بالإضافة إلى هذا، نجد أن

معظم وسائل التكنولوجيا الحديثة متوافرة للرجال وتدار بواسطتهم، بينما تواصل النساء القيام بالأعمال الشاقة والمتكررة دون أي ابتكار تكنولوجي في مجالات عملهن. ويذكر أن تجارة المنتجات الزراعية أدت إلى المزيد من السيطرة على النقود، ومن ثم على مصادر دخل الأسرة مما عمّق من سيطرة الرجال ونفوذهم.

وفي تقييم لأحد عشر مشروعاً للتنمية الريفية في نيبال في الثمانينيات، أوضح التقييمُ

التجاهلَ التام لدور المرأة الإنتاجي، بسبب المفاهيم السائدة التي شَوَّهت المهام والمعاني لمفاهيم مثل؛ ربة المنزل، ورب الأسرة، والنشاط الاقتصادي. ففي أغلب هذه المشروعات تم إدخال أساليب زراعية حديثة وتوفير آليات حديثة غطت فقط احتياجات الإنتاج المطلوبة من الرجال، وهي التي يتم استخدامها في المهام التي يقوم بها الرجال في الزراعة كالحرث. إضافة إلى ذلك، فإن الآليات الزراعية الحديثة في صناعة الحبوب مثلاً، كفرزها وطحنها، عادة ما يتم توجيهها لتدار بواسطة الرجال، وهي المهام التي تقوم بها النساء عادة. والمثال المباشر لهذا ما حدث في إندونيسيا وبنغلاديش عندما أدخلت الآلات الحديثة لطحن نوعيات الأرز عالية الجودة. الأمر الذي نتج عنه حرمان أعداد كبيرة من النساء من القليل الذي كن يحصلن عليه من عمليات الطحن سابقاً. يضاف إلى هذا الإقصاء من العمل ما تتعرض له النساء من إقصاء آخر في عدم تملُّكهن الأرض، والتي تمثل المصدر الحيوي للإنتاج

في الاقتصاديات الزراعية. وكما أشارت إحدى الدراسات الصادرة عن منظمة التغذية العالمية، حسب النظم التقليدية لاستغلال الأرض، فإنه غالباً ما يسمح للنساء بزراعة الغذاء لإطعامهن وأطفالهن والأسرة الممتدة، وهو ما يتم دون السماح لهن بتملك الأراضي. كما أشارت هذه الدراسات إلى أن بعض خطط إصلاح الأراضي التي قسمت الأرض للرجال، مما حرم النساء من استغلال الأرض كما كان سابقاً. وهو ما نتج عنه من ناحية أخرى أن أصبح ممكناً للمالك الجديد أن يبيع الأرض بدلاً من زراعتها، وبالتالي عدم زراعة الغذاء للاستهلاك المحلي أو المنزلي، بما يعني مزيداً من الإقصاء للنساء.

وقد ترتّب على تملُّك الرجال للأراضي، وقيادتهم الأُ سر، أن أصبحوا وحدهم مَن يحق لهم الحصول على القروض، والمشاركة في المشروعات الحكومية، وعضوية الجمعيات التعاونية. ويحدث هذا حتى في الأقاليم الجبلية في الهند، حيث يحصل الرجال على كل الحقوق السابقة، بينما معظم العمليات الزراعية تتم بواسطة النساء بسبب هجرة الرجال إلى المدن. كما أوضحت العديد من التحليلات لمشروعات إعادة الاستيطان الزراعية، مثل مشروع مهافيلي في سيرلانكا، ومشروع مودا في ماليزيا؛ وموي في كينيا، أن عمليات التخطيط التنموي في معظمها تتم على اعتبار الأسرة الوحدة الأساسية للإنتاج، معتمدة في ذلك على الرجل كرب للأسرة والمرأة كرَبّة أسرة مساعدة، وهو ما يتجاهل التقاليد والعادات السائدة التي تتيح للنساء استقلالاً نسبياً في مثل هذه المجتمعات. وفي مثال لتلك التحليلات، نجد أنه، في مشروع مهافيلي في سيرلانكا، لا يحق للنساء المتزوجات ملكية قطع الأراضي الزراعية حسب مشروعات إصلاح الأراضي والاستيطان الزراعي، وبما أنه مطلوب من

كل أسرة تحديد اسم وريث واحد للقطعة الزراعية، فإنه عادة ما يكون اسم الابن، وهو ما يخالف القوانين والأعراف والتقاليد السائدة في تلك المجتمعات، والتي تقر الوراثة المشتركة للأبناء والبناتللأرض الزراعية في الأسرة) 23 (.وإذا تناولنا التدريب على التنمية بصورها الحديثة، نجده يمثل ملمحاً آخر لتجاهل النساء في عمليات التنمية. حيث لا تُتاح لهن فرص التدريب في الإرشاد الزراعي، وإن أتيحت فإن اختلاف التوجهات الثقافية بين النساء ورجال الإرشاد الزراعي يعمِّق صعوبة التواصل، ومن ثم يحدّ من الاستفادة المطلوبة. ومثالاً لهذا، ظل دور النساء، منذ القدم وحتى الآن، تقليدياً في مناطق شمال غرب بنغلاديش؛ ينحصر في أعمال الزراعة البدائية، من عزل واختيار البذور الزراعية. وعند إدخال

عينات جديدة، بجودة إنتاجية مختلفة، جاءت النتائج مخيّبة للآمال، إذ اتضح لاحقاً أن النساء كنّ يخترن البذور الخطأ لجهلهن بالإرشاد الزراعي الذي كان موجّهاً فقط للرجال.

على ضوء هذه التجارب، يتأكّد أنه، في مختلف أرجاء العالم، تشهد النساء إقصاءً وتهميشاً

مستمراً في العمليات الزراعية الحديثة، وهو ما يتم في كل الأحوال تحت زعم التنمية. أما في السابق، وقبل طرح خطط وبرامج التنمية الحديثة، فقد ظل الرجال والنساء سواسية وشركاء في العمليات الزراعية، وظلت معرفة ومساهمة ومشاركة كليهما متساوية ومتعادلة في العمليات الإنتاجية، دون تمييز بين الإنتاج في الفضاء العام أو الفضاء الخاص. إلا أنه تدريجياً أصبحت الزراعة الحديثة، بعد دخول التنمويين، أكثر توجُّهاً نحو المزارعين الرجال دون النساء. حيث ملكوا الآليات الحديثة، واستأثروا بعضوية اللجان التعاونية والتنموية. ومع تطور وتدفق عائدات الزراعة الحديثة، أصبحت النقود تتدفق في أيدي الرجال، بما يعني مزيداً من النفوذ. وبدخول الزراعة إلى مجالات العمل

التجاري بعائداته النقدية، ازداد تهميش النساء باعتبار أن المصارف والمراكز التجارية عموماً تعامل

كفضاء عام، وهي بالتالي تقع تحت سيطرة الرجال، ولا يتاح لأغلب النساء المشاركة فيها.

ولا يقتصر تهميش النساء في برامج التنمية الحديثة على الأنشطة الزراعية فقط، ففي بعض

المجالات والأنشطة الاقتصادية الأخرى توجد نتائج مماثلة في إقصاء النساء من جراء برامج التنمية. ومثالاً لذلك الهند؛ وبعد إدخال الآليات والتحديث في صناعة النسيج، فقدت النساء وظائفهن في صناعة النسيج، حيث كنّ يُوظَّفن بأعداد كبيرة جداً في هذا المجال، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من التهميش الاقتصادي. وبصورة عامة يمكن القول إن التهميش الاقتصادي، وإقصاء النساء في عمليات التنمية، أدى إلى تهميش اجتماعي أضعَفَ وضعهن الاجتماعي. وقد يكون هذا أحد الأسباب التي أدت مثلاً إلى انتشار تقليد دفع مهور في الزواج، أو قتل الأطفال من البنات في الهند، وهي عادات لم تكن معروفة من ذي قبل في بعض المجتمعات الهندية.

*كيف يمكن توصيف هذا النموذج من التنمية من وجهة نظر نسوية؟

 

العديد من الباحثات النسويات ذوات التوجه الاشتراكي قدمن العديد من البراهين التي

تشير إلى أن تحويل الإنتاج إلى النظام النقدي والتجاري، قد أدى إلى تهميش النساء والفقراء. وقد أدى تراكم رأس المال إلى جعل بعض الأفراد يَجمعون المزيد والمزيد من الثروات، في حين أن البعض الآخر بدأ في فقدان السيطرة على الأرض والمصادر الأخرى. وكل ما يستطيع هؤلاء البعض التحكم فيه هو قوة عملهم، التي أصبحت بدورها غير محددة بواسطتهم. وقد أشار فريدريك أنجلز إلى أن الملكية الخاصة هي ما أدت إلى خلق الطبقات والتفاوت في النوع الاجتماعي «الجندر ». وحسب رأي أنجلز فإن السيطرة على النساء جاء ظهورها مع ظهور الملكية الخاصة، حيث أدت سيطرة الرجل على رغبات النساء الجنسية، وعلى إنجابهن، إلى ما عُرف بالهزيمة التاريخية لحق تحديد المصير حول الأمومة من عدمها. ويعتبر وضع نساء الطبقة البرجوازية مثالاً واضحاً لذلك، حيث كنّ أسوأ حالاً من نساء الطبقة العاملة؛ لأنهن يُعتبرن ضمن الملكية من ناحية، ومن ينجبن ورثة تلك الملكية من ناحية أخرى.

وتعتبر هذه العملية بصورة خاصة ذات مدلول قوي، كما ترى سن ودريز، خاصة وسط

الطوائف الدنيا، عندما تحقّق حراكاً اقتصادياً. ومن المدهش حقاً أن يقال لك إن ارتفاع مستويات الفقر ترتبط دائماً بارتفاع معدلات النساء للرجال. لكن في حقيقة الأمر، أن عنصر المشاركة في علاقات

النوع الاجتماعي «الجندر » بين النساء والرجال يعتبر أكثر قوة وسط الأسر الفقيرة، عندما يصبح أمر

البقاء والحياة معتمداً على الترابط والتعاون، مقارنة بالأسر الثرية حيث تميل نساؤها إلى الاعتماد

على الرجال، ويصبح دورهن رمزياً في المشاركة.

وتقدم الباحثة الألمانية في المجال النسوي فيرونيكا ثومسين ) )Veronica Thomsen

افتراضاً مشابهاً، حيث ترى أن الوضع المتردّي لأغلبية نساء العالم الثالث لا يرجع إلى النظم “الأبوية” القديمة، ولا يمثل مظهراً للتخلف أو عدم النمو، بل على العكس؛ فإن تردي أوضاع نساء العالم الثالث يعتبر نتاجاً مباشراً لعمليات التنمية والتطور الحديثة. وترى ثومسين أن مفهوم ربة المنزل المتعارف عليه اليوم ظهر في بلدان ما يعرف ب”العالم الأول” خلال القرن التاسع عشر، ويمثل نتاجاً لعملية تدريجية تاريخية تشابه وترتبط ارتباطاً وثيقاً بعملية تشكل البروليتاريا. وتسمّي ثومسين هذه العملية ب”التبعية المنزلية الأبوية” أو “الربوبية المنزلية”. وتستمر ثومسين في طرح افتراضاتها لتقول إنه، ومع تداول النقود والاقتصاد السلعي وسيطرته، تدهوَر وضع النساء، ليعملن دون أجر، أو بأجر أقل، في مختلف مجالات العمل، ومن ثم انقطعن للعيش ذاتياً مع أطفالهن في عالم يحكمه اقتصاد المال، ويجدن مداخل محدودة ومقيدة إلى هذا العالم. فنتيجة لعدم قدرتهن المالية، التي تجبرهن على الاستسلام والاعتماد على الرجال، أصبحت العلاقة بين الرجال والنساء أقل تعاوناً، وبالتالي أقل

تكافؤاً. وعلى ضوء هذه الظروف، آلت العلاقة بين النساء والرجال إلى طابعها التراتبي الموجود حالياً. وتضيف ثومسين قائلة: )بما أن المال والوضع الاجتماعي في المجتمعات الحديثة يرتبطان ارتباطاً وثيقاً، فإن من لا يتاح لهم الحصول على المال لا يتمتعون بالمكانة الاجتماعية اللائقة() 33 (. أما ماريا ميس ) Maria Mies ( فقد أكدت من خلال دراستها للنساء الريفيات في الهند خلال عقد السبعينيات على أوجه أخرى في علاقات النوع الاجتماعي “الجندر” ارتبطت بعمليات التحول التنموية. فقد أشارت إلى:

)أن معظم أشكال العنف والرعب الجنسي توجد في المناطق التي بدأت تشهد تطوراً في الزراعة الحديثة. وهي تطورات السنوات الأخيرة التي شهدت ظهور أشكال جديدة وحديثة لتكوين الثروات. الأمر الذي تواكب معه ظهور السينما والتلفزيون والبضائع الحديثة التي قُدّمت كسلع استهلاكية تدل على التطور

والتحديث() 43 (. وإذا ما نظرنا إلى كل هذه المؤشرات وتبعات هذه التحولات يجب علينا أن نلفت انتباه المعنيين بعمليات التنمية للوقوف وإعادة النظر حول سياساتهم وتطبيقاتها. فما يحدث الآن يؤكد لنا أن التقدم الاقتصادي في حد ذاته لا يعني بالضرورة تراجع عدم المساواة في علاقات النوع الاجتماعي «الجندر »، ولكن في الواقع أن نمو الاقتصاد الرأسمالي يؤدي عملياً إلى تعاظم الانحراف في علاقات النوع الاجتماعي «الجندر .» على ضوء كل ما سبق، فإن تحقيق المساواة على أساس النوع الاجتماعي «الجندر » تتطلب عملية فعالة للتغيير الاجتماعي، الأمر الذي قد لا يكون له صلة مباشرة بالنمو الاقتصادي. وقد أوضحت العديد من الدراسات العديدة درجات التحامل على المرأة في تناقص مستمر لعدة عوامل،

وهو ما يعطي النساء صوتاً مسموعاً ومكانة أفضل داخل الأسرة. ويمكن الإشارة إلى بعض هذه العوامل المتمثلة في فرص التعليم الأساسي، والمقدرة على كسب الدخل المادي المستقل من خلال العمل المأجور، مما يعطيها الفرصة لمزيد من الانفتاح، وأن تحظى باحترام أكبر وبقدر أعلى من المساواة وبفرص أحسن للحياة) 53 (.

 

*هل أحدثت هذه الأبحاث والأفكار أي اختلاف أو تغيير في خطط التنمية وبرامجها؟

 

بالطبع أحدثت بعض التغيير. إذ أدرك بعض المخطِّطين وأصحاب القرار أن تجاهل

أو إهمال النساء في عمليات وبرامج التنمية لا يُلحق الضرر بالنساء وحدهنّ، بل يتعداهن إلى

المجتمعات والأمم بأكملها، خاصة وأن النساء قبل كل شيء يمثلن نصف الجنس البشري. وللتأثير على الدول نظمت الأمم المتحدة في العام 1975 م مؤتمراً عالمياً بالمكسيك أعلنت فيه أن العقد بين 1975 –

1985 م يعتبر عقداً للمرأة. وقد تم التحضير لهذا العقد السنوي بإعداد وصياغة خطط وبرامج عملية تمت الموافقة عليها بواسطة العديد من الدول. وعملياً عُقدت المئات من المؤتمرات والاجتماعات، تم التركيز في معظمها في بحث كيفية انخراط النساء في عمليات التنمية. ومن جانب آخر، كان هناك ضغوط مختلفة؛ تمثلت في المطالب المتعددة للحركات النسوية بالمساواة والعدل والتنمية. كما كان هناك ضغوط من جانب آخر؛ تمثلت في إصدار المعاهدات والبيانات العالمية، والمواثيق الدولية الخاصة بقضايا وحقوق المرأة. وعلى المستوى العام نتج من هذه التحركات أن أنشأت العديد من الدول وزارات خاصة بشؤون المرأة، أو أسَّست هيئاتٍ أو أقساماً ولجاناً من مهامها جمع المعلومات والإحصائيات النوعية عن النساء، من أجل رصد وتقييم تأثير برامج التنمية عليهن، مع تضمين قضايا المرأة في خطط وبرامج التنمية. وقد تم الاعتراف بدور النساء وإسهامهن في العمليات الإنتاجية وفي المجتمع بشكل عام. كما تم الاعتراف باحتياجاتهن الخاصة. وإلى حدٍّ ما، أفضت كل هذه الجهود إلى رفع القناع عن عدم التقدير لدور المرأة وتجاهل مكانتها، فقد أصبحت النساء بصورة ما أكثر حضوراً. إضافة لذلك، فقد وافقت العديد من الحكومات على رفع تقارير سنوية للجنة الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة، وذلك حول التقدم المحرز في هذا المجال: مساواة النوع الاجتماعي «الجندر .»

أما الصورة الأخرى لمشاركة المرأة في عمليات التنمية، فكما ترى ساسكيا ويرنجا ) Saskia

Wiringa ( أنه بالرغم من الاهتمام الذي بُذل نحو قضايا المرأة والتنمية في العقود الأخيرة، إلا أن التقدم الملموس يظل بطيئاً، ويسير بصورة غير منتظمة في عملية النمو الاقتصادي. وفي تقرير الأمم المتحدة الصادر في 1991 م، أشار السكرتير العام للأمم المتحدة حينها بريز دي كويلر ) Perez de

Cuellor ( أنه أصبح واضحاً، من الإحصائيات والمؤشرات، بالرغم من بعض التقدم المحرز بالنسبة للنساء خلال العقدين الماضيين، أن غالبية النساء لا تزال في وضع التخلف مقارنة بالرجال، خاصة في ما يتعلق بالسلطة والثروة. وذات الأمر تم التشديد عليه في تقرير الأمم المتحدة لعام 1993 م، حيث ورد أن النساء يشكلن المجموعة الأكبر المبعَدة من عمليات التنمية، وغالباً ما يُحجَبن عن مراكز السلطة، وينلن حظاً أقل في التعليم، ويحظين بأقل الفرص في الوظائف. ففي الدول النامية التي تتوافر بها إحصائيات نجد أن مقدار التنمية البشرية للنساء تعادل 60 % فقط. كما نجد أن بعض الأبحاث الحديثة قد ركزت على الارتباط بين فروق النوع الاجتماعي “الجندر” في التنمية، وأثر ذلك

في تصاعد العنف على النساء) 63 (.

 

*هل يمكن القول إن علاقات النوع الاجتماعي «الجندر » في جنوب آسيا قد أصبحت أكثر

مساواة؟

 

ليس من السهل تقديم إجابة قصيرة وواضحة لهذا السؤال. فموضوع المساواة والعدل في

قضايا النوع الاجتماعي «الجندر » يعد أمراً شائكاً، ولا يمكن تعميمه على كل المجتمعات والبلدان.

حيث نجد حالات حققت فيها النساء بعض المكاسب، مثل الحصول على حق التصويت، والحق في الميراث، وزيادة فرص التعليم والتدريب، والحصول على الوظائف، وتسهيل إجراءات السفر، وغيرها من الفرص، بما فيها المشاركة – نسبياً – في عملية صنع القرار السياسي. كما نجد أن هناك طفرة ملحوظة في الوعي بقضايا اضطهاد المرأة وبضرورة مقاومة مختلف صوره بطرق منظمة. ويمكن القول إن النساء أنفسهن أصبحن أكثر وعياً وإدراكاً لضرورة التغيير، إلا أنه من الناحية الأخرى، وفي حالات كثيرة، تظل النساء أسوأ حالاً في مجتمعاتهن.

ففي سيرلانكا مثلا، بالرغم من أن الإحصائيات تشير إلى التقدم في متوسط أعمار النساء

وتراجُع نسب الأمية وسطهن، إلا أن وضع النساء عموماً ظل متدهوراً خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة. وفي بلدان مثل الهند، وبنجلاديش، وباكستان ظلّ معدل النساء إلى الرجال مؤشراً أكثر سلبيةً عن نسبة النساء. ففي العام 1991 م بلغت نسبة النساء للرجال في بنغلاديش 940 ، وفي الهند 927 ،

وفي باكستان 910 ، مقابل 1000 رجل في أي من البلدان الثلاثة. واليوم أن هناك 74 مليون امرأة وفتاة مفقودات في جنوب آسيا. الأمر الذي يعني تزايد النساء والفتيات اللاتي يُقتلن مقارنة بما قبل 90 عاماً. وتبرهن هذه الأرقام أن وضع النساء والفتيات أكثر تدهوراً، وهو ما يتضح في هيمنة السلطة «الأبوية »، ومختلف صور التمييز والعنف ضد النساء.

ومن ناحية أخرى، فبالرغم من أن معظم بلدان جنوب آسيا تُتاح فيها للنساء العديد من

الفرص، مع تزايد وعيهن وإدراكهن لقضايا النوع الاجتماعي «الجندر »، إلا أننا نلاحظ صوراً لابتعاث جديد للنظم «الأبوية ». فالتطرف الديني، مثالاً، بأشكاله كافةً، أصبح يؤدي إلى مزيد من الحجر والتضييق على حرية النساء وحقوقهن. كمثال لذلك؛ في باكستان استُبدِلَت القوانين المتقدمة للأسرة بالقوانين الدينية، التي تعتبر في كلياتها مناهضة لحقوق المرأة. وفي بنغلاديش يحارب الأصوليون المجموعات النسوية الناهضة والجمعيات النسوية غير الحكومية والتي تسعى إلى حصول المرأة على حقوقها. وتسعى الجماعات الهندوسية اليمينية لإعادة النظام «الأبوي ». أما في اقتصاد السوق، فإن متطرفي تحقيق الأرباح يروّجون للتجارة الجنسية بكل ما يحطّ من قدر وكرامة المرأة، ويُفقدها معناها الإنساني. يضاف إلى ذلك مسابقات ملكات الجمال، التي سبق احتقارها وكادت تختفي، ثم عادت أكثر شراسة مع العولمة وتحرير السلع والسوق. وفي مجال التمييز والعنف ضد النساء، ارتفعت معدلات العنف ضد النساء كثيراً في معظم بلدان جنوب آسيا، كما تواجه النساء جملة من

الصعوبات الاقتصادية التي تؤدي إلى المزيد من التمييز ضدهن. فمثلاً في الهند، وصلت عادة قتل الفتيات إلى قرى جنوب الهند، الأمر الذي لم يكن معروفاً بالمرة. وبدأ نظام المهور في الزواج يظهر كممارسة في المجتمعات التي لم تكن تمارسه من قبل. أما عن المشاركة السياسية للنساء فالأرقام ما تزال ضعيفة للغاية، بالرغم من أن أربعة من سبعة رؤساء دول في جنوب آسيا من النساء، حيث لا توجد في برلمانات دول جنوب آسيا إلا أعداد ضئيلة جداً من العضوات في برلمانات بلدانهن. وإذا ما نظرنا إلى مسألة المساواة في النوع الاجتماعي «الجندر » في جنوب آسيا، مقارنة

بمناطق أخرى من العالم، تورد سيلفيا والبي ) Sylvia Walby ( في دراستها للتغيرات في النظام

“الأبوي” في بريطانيا، عدداً من الملاحظات يمكن مقارنتها بما يحدث في جنوب آسيا. وترصد سيلفيا

حدوث تغيرات نوعية وشكلية في النظام “الأبوي” في بريطانيا، شبيهة بما يحدث في جنوب آسيا. فقد شهدت نهاية القرن الماضي تغيراً في حراك النظام “الأبوي” من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام. وكما هو معروف فإن النظام الأبوي في المجال الخاص يقوم على الأسرة كوحدة إنتاجية تواجه فيها المرأة صوراً متعددة من الاضطهاد. أما في المجال العام فيستحوذ النظام “الأبوي” على المواقع العامة، مثل التوظيف والعمالة والدولة. والتغيير الذي حدث هو أن الأسرة، كفضاء خاص، وإن كانت لا تزال بمثابة بنية داخل هيكل النظام “الأبوي”، لم تعد الموقع الرئيسي “للأبوية” كما كانت. ففي النظام

الأبوي الخاص يَستغل الأفرادُ عملَ النساء عادةً، ولكن النظام “الأبوي” في الفضاء العام يُستغلّ عمل المرأة جماعياً.

وحول السؤال عما إذا كان هناك تقدم أو تراجع في أوضاع النساء، تضيف سيلفيا قائلة:

)إن النظام «الأبوي » ليس أمراً تاريخياً ثابتاً لعلاقات النوع الاجتماعي «الجندر ؛»

فالتغيرات والتعديلات التي حدثت في علاقات النوع الاجتماعي «الجندر »

خلال القرن الماضي أو ما يقارب ذلك، يجري تفسيرها بمعايير مختلفة كالتقدم، والتخلف، أو الثبات. فالليبراليون مثلاً يصفونها بالتقدم، والماركسيون يرونها تخلفاً يتبعه ثبات، والنسويات الراديكاليات لا يرين فيها تغييراً ملموساً() 73 (.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى