ضفّة أخرى: التسامح..الطريق نحو الشفاء التام
وحينما نتذكّر حالة كتلك الفتاة التي شوّه لها خطيبها وجهها مستخدما مايعرف ب(موية النار) والتي هي عبارة عن حامض الكبريتيك المركز الحارق. تستغرب هذه العدوانية التي تبحث دائما عن أبشع الطرق للتعبير عن نفسها.بعض أشكال السادية هي تعبير عن الشعور بالنقص والتهديد. حينما يشعر المعتدي انّه غير محبوب ولا يشعر ايّ أحد بوجوده ..يريد ان يعلن عن نفسه بصورة سلبية. يريد ان يقول : اذا لم تشعر بوجودي بإرادتك فإنّي سأشعرك بوجودي عبر الآلام التي سأسببها لك. طالما ستتألم وتنظر الى الندبات التي سأتركها عليك ستشعر وقتها انني موجود!.
حين نعمل مع ضحايا العنف على اختلافهم تواجهنا معضلة أخيرة في الشفاء وهي عدم قدرة الضحيّة على التسامح والمضي قدما في حياتها. إنّ البقاء في سجن الغضب والكراهية هو أسوأ التشوهات التي يتركها المعتدون على الضحايا. وحين نقرر ان نتسامح ونعبر خارج دائرة الغضب والكراهية ونتحرّر فإنّنا لا نسدي خدمة للمعتدي ولكن لأنفسنا أوّلا. ليس من الضروري ان نقول له انّنا سامحناك ..بمقدورنا الاستمرار في حياتنا دون الشعور بالالم وحسب. إنّ اولى عتبات الشفاء تبدأ بالقدرة على استعادة الحدث الصادم كاملا مرارا وتكرارا حتى يضعف تأثيره السالب علينا ونفرغه من طاقته السالبة. ومتى ما تحوّلنا نحو الحياد عند استدعاء حدث الصدمة كنّا نسير في طريق الشفاء الحقيقي. وقد وجد علماء النفس الايجابي انّ للتسامح قدرة شفائية عالية. وقد ذكر اسليغمان في كتابه عن علم النفس الايجابي قصّة لطبيب نفسي كان يخطط لزيارة والدته التي كانت تقيم وحيدة في احدى الاحياء في الكريسماس حين أتاه خبر اغتيال والدته على يد أحد اللصوص من السود وصغار السّن. ظلّ الطبيب لسنوات رهن الغضب والكراهية قبل ان يجرّب التسامح. ولأوّل مرّة بدأ بالتفكير والشعور من منظور المعتدي. انّها ليلة مظلمة والبيت هاديء وسيكون مالا سهلا أحصل عليه. ولكن المفاجأة السيئة انّ هنالك عجوزا داخل المنزل بدأت تصرخ وتطاردني ورأت وجهي..سأبقى طويلا في السّجن ..وعند الاشتباك معها قمت بضربها لردعها من الامساك بي ولكنها سقطت في الارض ..خفت فلذت بالفرار..لم اكن اقصد موتها. بدأ الطبيب يفكّر في الشاب سيء الحظ صغير السّن الذي سيحاكم بالقتل والسرقة. وفي الظروف التي انتهت به لصّا في الشوارع ينهب الناس ويؤذيهم. هذه الطريقة في التفكير ساعدته على أن يتسامح ويعبر. حين نستهلك طاقة تفكيرنا في الغضب والكراهية قد تدفعنا للتعامل بعدائية وعنف مع الآخرين وتحوّلنا الى معتدين. انّ اسوأ شيء يفعله بنا المعتدي هو ان يجعلنا نتخبط في سجون الغضب والكراهية. نتجنّب النّاس والاشياء. ونكتسب الكثير من السلبية والرفض. انّ اوّل خطوات الدفاع ضد الساديّة والساديين ان تنساهم وتتجاهلهم وتتجاهل ما فعلوه لايذاءك.
يعتبر بعض الناس انّ سياسة اللاعنف التي انتهجها غاندي وحررت الهند. وتجربة الاعتذار والمصالحة في جنوب افريقيا . ومقولات المسيح(اذا لطمك احد على خدّك الايسر فادر له خدّك الايمن ليلطمك فيه) هي مواقف مفرطة في المثالية وحالمة.والحقيقة انّها مواقف معبّأة بالمقاومة وعمليّة. انّ المراكز المسئولة عن العدوان في الدماغ موجودة في الانسان والحيوان بغرض الدفاع عن النفس والمصالح. مثل الحفاظ على المجال الحيوي للصيد وحماية القطيع ونحو ذلك في الحيوان. وهذه المراكز في الحيوان يتم تثبيطها برضوخ واستسلام الفريسة. فالحيوان لا يستطيع الاعتداء على فريسة ليست في موقف دفاع وعنف مضاد. والعنف المطلق والعدوان هي صفة غير دقيقة حين تلصق بالحيوان. فالعنف الدموي بصورته المعروفة لا يوجد الا في الحشرات. وفي الانسان يتم تثبيط هذه المراكز من مراكز اخرى مسئولة عن الذاكرة والتعلّم والتعزيز المحرّض للبيئة. وحين نواجه اعداءنا بأيدي عزلاء فإننا نحرّض مراكز التثبيط المختلفة لكفّ العنف لديهم. وعليه فإذا قارنت بين تلك المواقف التي انخرطت فيها في عنف مضاد لوجدت نفسك وان كنت تدافع عن نفسك تعود بالتوتر وعدم الرضا عن الذات. فسياسة اللا عنف هي روح المقاومة النظيفة التي اعود بها منتصرا دون ان افقد قيمة اعتز بها ودون ان اختبر لحظة اتساوى فيها مع المعتدي حين اتسبب في موته او ماشابه. وحين اتسامح واسمو فوق تجارب العنف فإنّني اسدي الى نفسي خدمة اخرى بالانعتاق من المرارات والكراهية. حدث واختبرنا المسيرات السلمية في اكثر من حدث. كنّا نجلس على الارض صامتات ..كانت عصي الشرطة تضرب الارض بالقرب منّا بالكثير من التوتّر وكان الاختبار الاصعب ان لا تظهر تلك البادرة المتوترة من جانبنا وتعطيهم المبرّر لضربنا. يحتاج الانسان للكثير من الشر والعدوان ليعتدي بالضرب على سيدات جالسات على الارض بصمت. حين اصررنا يومها على هدوئنا وصمتنا اضطّرت الشرطة لتغيير العنف الى الإعتقال. ساعدنا أنفسنا يومها بالتجاوز والغفران فالشرطة تقوم بواجبها ونحن كذلك. واللا عنف هو أكثر من مساعدة تقدّمها لنفسك هو مساعدة تقدّمه للآخرين المعتدين حين تعينهم بلا عنفك على أنفسهم وتحد من شرورهم دون ان تهابهم او تستسلم لهم.
محطّة أخيرة:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أحْقِدْ عَلَى أحَدٍ أرحتُ نفسي من همَّ العداواتِ )
إنِّي أُحَيي عَدُوِّي عنْدَ رُؤْيَتِهِ لأدفعَ الشَّرَّ عني بالتحياتِ
وأُظْهِرُ الْبِشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضهُ كما إنْ قدْ حَشى قَلْبي مَحَبَّاتِ
النَّاسُ داءٌ وَدَواءُ النَّاسِ قُرْبُهُمُ وفي اعتزالهمُ قطعُ المودَّاتِ)الامام الشافعي رضي الله عنه