ضفّة أخرى: السودان من مأزق التجميد الثقافي الى رحابة الاقتدار (14)
نحن لازلنا نتلمس طريقنا خارج الزجاجة لا نزال …وهو طريق طويل , اوله مواجهة الذات واوسطه وعى بالتشويه وآخره عتق من القهر …ولقد عرّجنا على تمظهرات القهر فى الشخصية السودانية على مستوى الرؤية للذات عابرين غير مقيمين . ودلفنا حيّز العلاقة بالآخر بتشعباتها الكثيرة ..آملين فى عقد هدنة مع الآخر فى قمة على تخوم الذات ..إذ لم يجف حبر نيفاشا بعد حين اضلّنا السامرى ..فاتخذنا العجل من بعده ..اىّ طريق للسلام هذا الذى لا يمرّ بالذات المعتمة فيضيؤها ؟!
انتقل علماء النفس المهتمين بدراسة السلوك الانسانى من معالجة السلوك كحالة معزولة من الفكر ..الى دراسة الافكار باعتبار انها المحرك الاساسى للسلوك …حين نتحدث عن العلاقة بالآخر , فنحن نعنى بالضرورة تاريخ من سوء الفهم وفشل الحوار ..غير ان الآخر المختلف الذى يقع خارجنا ليس بالضرورة عدوّاً الا بمقدار المعارك المختلفة التى نعيشها مع ذاتنا …فكما اسلفت نحتاج لنعى ذاتنا وبالتالى نقدرها الى مقارنة مع آخر مختلف عنّا , قد يكون ندّاً لنا او اعلى منّا او ادنى منزلة على حسب ما تقرر الاعراف المجتمعية المنازل والطبقات …وخجلنا كسودانيين من الافريقى الذى يسكننا …انما هو نتاج تجارة الرق الطويلة فى السودان والتى كانت تستهدف مناطقا بعينها..لازلنا نركض بعيداً عنّا وعنها ..بالاضافة الى ذهنية المستعمر التى حكمتنا بسيادة الرجل الابيض والنظريات العرقية التى تبارك الابيض بلعنة عرقنا الاسود …ينتهى كل السودان فى نسبه الى العباس رضى الله, دون حتى ان نتساءل اين ذهب نسل ابوجهل وابو لهب ؟!….ربما كل ما ينقصنا هو إعادة تقييم للسمات الجمالية التى يحملها اللون الاسود ..اى خوف ضار هذا الذى يجعلنا نحب عنترة وعطيل وبلال ولا نحب اللون الاسود ؟!…اعرف انّى بفتح سؤال الهوية من هذا الباب , انما اتطفل على احد التابوهات المحرمة فى مجتمعنا ..نعيشها يوميا وننكرها قبل ان يصيح الديك .. يخشى الجميع مآلات التلاعب بالتراتبية الهرمية فى المجتمع السودانى ..ولكن كيف يمكن ان نعبر الى فضاء مسالم ونحن مسكونون بهذه الافكار الملغومة ..صحيح ان تاريخ الرق فى السودان انتهى ولكن ذهنية الرق لا تزال تحكم تصرفاتنا ونظرتنا الى الآخر …دار هذا الحوار بين صديقين عزيزين , يجيدون توظيف الدعابة بكل الوانها حتى اكثرها حلكة بعد ان عقدوا هدنة مع الذات ..احدهم من الجعليين والثانى من جبال النوبة ..فى لحظة ملاطفة حادّة قال الجعلى للنوباوى :
.جننتونا ما تنفصلو كان دايرين تنفصلوا _(
_ شوف جدادة الحلّة الطردت جدادة البيت, ونخلى البلد دى لى منو ؟! ماقلتو جدكم .العباس انتو الترجعو محل ماجيتو …
_ نرجع محل ما جينا ؟! بى ياتو وش..جيناكم يايابا على ضهر خيولنا وشعرنا فى نص ضهرنا يطاير كدى وكدى ..لميتو فينا بقيتوه لينا مقرمد ..قال نرجع قال…)
هذا الحوار يدور يوميا فى العلن و الخفاء , تلمحه فى ازورار العيون وتشنج اطراف الفم فى استعلاء واضح …قليلون هم على شاكلة اصدقائى الذين يفتحون قلوبهم للشمس كى تطهر نعرات الجاهلية … انتهى الحوار اعلاه بسلام كغيره من حوارات الاصدقاء التى لا تنتهى وقد الهمتنى الكثير كما الهمتهم الحديث عن جراحهم الشخصية بموضوعية تتلبس الدعابة السوداء . والدعابة التى لها لوننا هى من اكثر الدفاعات النفسية نضوجا..ان تحذق صياغة آهاتك الشخصية فى شكل ضحكة جادّة تخدم وظيفة نفسية عالية تقوم بدورها فى مواجهة ذاتك دون ان تجرحها لهى وقفة نبيلة ولا شك . والقصة اعلاه ليست نزهة..اذ اوردتها داخل هذا النص بغية ان اقف على مآلات التماهى مع الاخر القاهر الابيض والتنكر للافريقى الذى يسكن ملامحنا ولا يمكننا تجاهله الا بتجاهل وجودنا باكمله وهذا ما نعيشه يوميا واقعا ضبابياًيحيلنا الى اشباح تخشى ان تلبس وجها بشريا يصادر خلودها وديمومتها ..انغرست عقدة النقص فى ذاتنا باكثر مما يشتهى النصل ..عميقا الى تلك المساحة التى نرى بها الذات والتى تلون المساحة التى نتعرف بها على القيم الجمالية والانسانية ليصير النموذج الذى نشتهيه بعيداً عن افريقيا قدر ما نستطيع ..هربا من تاريخ رقنا الطويل وعبوديتنا التى لاتزال …وكلما كانت افريقيا حاضرة فى ملامح احدهم بشدّة تزداد ردّة فعله النفسية لدفع تهمة انتماء عرقى يحسّه ويحتقره الى درجة ان يتحول الصراع العرقى الى واقع يومى معاش ..لذا تلعب النكات العرقية فى المجتمع السودانى دورا هامّا فى تكريس التحامل والتنميط العرقى والتنفيث غير السوى لعقد النقص والدونية ..نضحك معها بتشفى ونتهامز بها ونتلامز ..ترفض بعض الاسر ازواجا بعينهم لانتمائهم الى مناطق معينة ولاتجد غضاضة فى الحديث عن هذا بفخر واستعلاء ..مما يعنى ان انسانيتنا نفسها لازالت هدفاً بعيداً غير مدرك ..اذا لم نكتسب الحساسية والتعاطف مع الآخر فنحن لم ندرك انساننا بعد …اذا لم تنحسر العرقية لتصبح شيئاً نخجل ونتبرأ منه فنحن لا زلنا رهينين ماض غير مشرف ..وذهنية الرق فى السودان , هى ممر لاحقاد كثيرة ومتفشية ..فمثلاً حين يتطور شخص ما ويميز نفسه بعلم او دين او مال ..ويعجز البعض عن اللحاق به فى منافسة عادلة شريفة ..سرعان ما يلجؤون الى تكتيك بن الاكرمين بالحط من قدره وتعييره باصله الوضيع وتذكيره باصولهم الرفيعة … وعبارة ( الدنيا بت كلب )هى اكثر العبارات الرائجة فى هذا الصدد ..تخرج من فم سيد محبط تفوق عليه عبده وهى بالطبع سيادة وعبودية متوهمة ..تخرج من ذات فاشلة ومحبطة تبحث لها عن متنفس فى دفاعات نفسية مريضة فتمرر طاقة قهرها الى الآخر المختلف الذى القى به حظه العاثر فى طريقه …الى ان تختفى عبارتى ( عب, وخادم ) من قاموس اللغة السودانية لا اظن انه بوسعنا ان نوقع اى هدنة مع الآخر .!.وتلعب القبيله بوصفها الوحدة المركزية فى ظل الانظمة الشمولية دورها فى تكريس النعرات والعصبية ..
قد يبدو الحديث السابق متطرف فى حيز العلاقة بالاخر الى درجة ابتلاع كل العداء الانسانى فى اشكالية الهوية . والحقيقة ان الذات التى تشعر بنقصها ودونيتها لا تكف عن التذمر فى سلوكها من كل ظل خارجها …حين نشعر بان احدهم ندّاً لنا .. يلتقى معنا فى ذات الاصل النبيل المدّعى وبالتالى لن اجد ما اشهره فى وجهه من نصال احط بها من قدره خصوصاً وانا اراه يخطر خارجا واثق الخطوة يمشى ملكاً ..تدوزن خطاه على اوتار ضعفى الداخلى وترددى ..وبالتالى لااجد لى مخرجا سوى اسقاط هذا الخوف فى شجار خارجى يتربص بالاخطاء الصغيرة والعابرة ..لذا يتحتم عليك كسودانى ان تجيد الى جانب قيادة السيارة والالتزام بكتيب الارشاد المرورى ..قاموسا من الشتائم تتسلح بها فى وجه المارّة والسائقين ..لتصبح عبارة ( شنو الحكاية , ياخينا ؟! رجالة ولا حقارة ), وكأن عبارة رجالة وحقارة تدخل عبر مسارات خاصة للدم , اذ ينتفخ بعدها الشخص ويتحفز للشجار , حتى انه قد يوقف سيارته جانبا ويترجل للعراك بالايدى …من يقول اننا شعب مسالم عليه ان يضبط لنا هذا المصطلح اولا ! وهذه العبارات دارجة فى شجارات يومية غير ذات قيمة ..نحن فى حالة تلصص دائم نحو وجوه المارّة …نبحث عن الناجحين والذين يصونون كبرياءهم ..لا لنتعلم منهم ..لكن لنكسر عينهم ونمرغ انفهم فى التراب . لذا تكثر النميمة والبهتان فى مجتمعنا والشكاوى الكيدية وافساد ذات البين ..والذى لم يرو الشارع ظمأه الى مشاجره يعود الى منزله يشتهي من يؤكد له سطوته وسيادته ..فلا يجد بالطبع غير عبيده المخلصين زوجته واطفاله ..فيسقط فيهم كل عقده وعاره ..يعيش الرجل السودانى حالة من الفصامية فى علاقته بالمرأة تحتاج الى وقفة ..فى خباء القهر التاريخى منذ ان تسللت الى جيناتنا دماء المجتمع الابوى الوافد.. وارتأينا لانفسنا ان نقف مع المرأة الوقفة التى تستحق …ليس من منظور عصبية نسوية متطرفة لا تخلو فى عدالتها من حالة لا سواء نفسى لذات ظلت ترفل تحت قيد قهر مزدوج ..فكان تمردها لمردودات القهر فيها..فأنكرت طبيعتها وما جبلت عليه ..أنوثتها وأجمل ما فيها ..لكنه موقف إنحياز للمرأة والرجل فى إطار العلاقة الانسانية السامية ..حالة هدنة , نضع فيها اسلحتنا المشهرة ونكف فيها عن إيلام بعضنا الاخر ..ترفقا بتلك العلاقة الدامية .. علنا نقترب منّا فنتعانق ..