أعمدة ومقالات

السودان من مأزق التجميد الثقافي الى رحابة الاقتدار (16) العلاقة بالطفل

انتهينا الى مناقشة تمظهرات القهر على مستوى العلاقة مع الذات والآخر( المرأة والأقليات ) وتبقى لنا مناقشة العلاقة مع الطفل ..وهى دائرة معيبة لا يمكننا ولوجها دون أن ندور حول ما ذهبنا اليه فى علاقة الرجل بالمرأة باعتبار أن العلاقات الزوجية لها تداعياتها على العلاقات الوالدية وتسلطها على الانظمة التربوية، وبالتالى توجيه شخصية أطفالنا مستقبلا نحو السواء أو اللا سواء النفسى مما يشكل خياراتهم المستقبلية، رؤيتهم للكون ، وعلاقاتهم العاطفية. وهكذا تدور الحياة دورتها بالمرض والعافية .. فإن كانت تمظهرات القهر قد طالت أنظمتنا التربوية فنحن بلا شك فى أمسّ الحاجة لكسر هذه الدائرة المعيبة …! وسنبدأ رحلتنا من هناك ..لحظة الاختيار الاولى لشريكة الحياة …ولتكن هذه العبارة هى أول ما نتناقش فيه , من هو  صاحب الخيار فى العلاقة الزوجية ؟ .. لا شك أن العرف يتحدّث عن اختيار الرجل للمرأة فى شراكة الحياة , وهو اختيار ظل صوريا لسنين طويلة إذ تفرض الاعراف القبلية فى بعض المناطق السودانية بنت العم تحت شعار ( غطّ قدحك ), فلم يكن للرجل والمرأة من أمرهما شيئا فيما قضت العادة فيسلموا تسليما! ومن هنا ولا شك تتسلل الامراض الوراثية والعاطفية إذ يهرب الرجل المغفور له الى أحضان الغوانى أو الزوجة الثانية ما امتلأت يده بالمال! أو يهاجر دون عودة! وتظل الانثى انتظارا ابديا قانعا وعفيفا  , فتنشأ أجيال كاملة بعيدا عن ظل الاب وحضوره الفاعل فى العملية التربوية .

وما نحن بصدده فى هذا المقال هو دفع الحياة الزوجية الى حيز الشراكة الفعلية من اللحظة التى يفترض أن يعنى الاختيار فيها أكثر من نزوة عابرة . ولا شك أن العمر الذى نختار فيه , طريقتنا التى نختار بها , فهمنا للعلاقة الزوجية ومثابرتنا على إنجاح خياراتنا الزوجية هو ما يصنع جنتنا أو جحيمنا القادم . ومع ثورة المعارف الكونية والتوق الى النماذج العاطفية المختلفة ظهر فينا جيل بتبايناته المختلفة من الرؤى التقليدية للحبيب والحبيبة الى الرؤى الحديثة …من مقومات الانجذاب الحسّى الى آفاق الانجذاب الروحى والمعنوى … من بدور القلعة وجوهرها وصدرها الفائر مرورا بصدرك عالى زى تربيزة الباشكاتب إنتهاءا بريادة كامل عبد الماجد وحيدته بين الحسى والمعنوى فى (ولولاته) الشعرية المعروفة :

(أسة فيك أنا شن أسو/ياسلام لو جيتى أبدر/ وهل تفيد بالله لو/ ياتو غيما نازلة منّو/ وياتو مخمل وياتو جو/والكواكب أيه لزومة وإنت مالية الدنيا ضو .

ومن (حاول يخفي نفسو) فى زمن سيادة البرنامج الابوى للحماية وأفضلية الحبيبة القاعدة غير ذات الضرر إلى ساحة المعركة التى البس فيها الصادق الرضى الحبيبة زيّا قتاليا وأدار لها ظهره لتخوض معاركها برفقته جنبا الى جنب …غيّر فيها إسم جمال الى نضال , .يقول الصادق الرضى :

أنه سيصنع له فتاة من دمه ودخان سجائره تفهم الوطن الذى يشقى به , يخصَها بالشعر والحمّى يسميها نضال !وما بين هذه المدارس المختلفة يظل الرجل السودانى يتزوج إبنة عمه أوقريبته , أو وفق ترجيحات وترشيحات الاهل والاصدقاء, أو يرث زوجة أبيه أو أخيه وينجب له كما فى جنوب السودان أو وفق ما يشتهى القلب ويهوى .. فكيف هو السبيل إلى خيار وحيد , حقيقى وأصيل ؟… تعالو نثرثر على هامش علاقاتنا الواقعية … فى كون إنطلق فى صيرورته من الوحدة الى التعددية وهو فى طريقه الى الوحدة مرّة أخرى بتفاصيل كثيرة , منها أن تطوى السماء طىّ السجل ..فسبحان الذى خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منها رجالا كثيرا ونساء ..يقوم مفهوم الزواج على ان اصل الروح واحدة فى بدء الخليقة,المبدأ الذى يرفد الزواج بمعانى انسانية راقية بعيداً عن بدائية الصراع الحيوانى من أجل البقاء وحفظ النوع عبر إشباع الغريزة ..وبالتالى ضبط الغريزة وتحجيمها جيلاً بعد جيل ..سعيا وراء الزواج فى أصل الحقيقة كقدر وجود مع الآخر الذى كان جزءا منا وانفتق …ليلتقينا فى قدر جديد, نعرفه فيه ويعرفنا حين يتوحد الادراك وتنكشف البصيرة بتعلم الانصات للنداء الروحى واسكات الغرائز وضوضاءها بضبط الإرث الحيوانى وإطلاق الروح .

تقول البحوث التى اجريت على الحيوان ان هنالك بنى تحت القشرة الدماغية عبارة عن مراكز عصبية ..وهى بشكل أساسى الوطاء والجهاز الحوفى .. يعمل هذان الجهازان كآليتى جملة عصبية تتوسطان السلوك الجنسى والعدوانى ويجرى تحريضهما انتقائياً والسيطرة عليهما بالمعالجة المركزية للتحريض البيئى ..كما تؤثر عوامل التعلم الإجتماعى فى أنواع الاستجابات التى من المحتمل أن يجرى تحريضها بأثارة البنية العصبية ذاتها ..اى ان الانسان يمكن ان يطور انماط إستجابة وآليات تحكم مختلفة تجاه الإغراء الغريزى ..وقد ساعدت الاديان السماوية , و الرؤى الفلسفية على توسيع الفضاء الروحى مقابل/ الغريزى ..بدءا من قانون العلاقات الجنسية خارج اطار الزوجية ( وصية لاتزنى ) , من الوصايا العشر التوراتية …انتقلت فكرة العلاقة من بعدها الحسى الى بعدها النظرى فى المسيحية , حيث تقدمت المسيحية خطوة نحو ترويض الغرائز وتحجيم حضورها الدماغى بالتربية والتعلم حيث دعت الاناجيل الى تحريم الزنا بالعين او القلب …كتمرين اولى لاسقاط الجنس من اولويات التفكير وتحييد النظرة وافراغها من بعدها الجنسى ..وادراج مفهوم جديد للآخر المختلف فى النوع بعيداً عن الاشتهاء ..وفى نظرى ان اختيار حيوانات الرنة لمركبة سانتا كلوز عشية الميلاد ..هى نقلة ضرورية للتدليل على افضلية الروح على الجسد حتى عند الحيوان, باعتبار ان ديسمبر هو شهر التزاوج لحيوانات الرنة التى تصبح اكثر عداءية اذا اقترب احد من انثاها ..وهكذا خلقت لها الاسطورة وظيفة بعيدا عن الجنس والارض حيث تحلق معظم الوقت وهى تسحب مركبة القديس فى مهمة مقدسة لاسعاد الاطفال والاشقياء والمحرومين..

وقد اتى الاسلام باقتراحات تكميلية لتمرين هذه المسارات بتحجيم هذه المراكز وضبطها ..ففى ثقافة كانت المرأة فيها متاعا وغنيمة اقتصادية كان على الاسلام ان ينزع لها بالتدريج من الشح البشرى مكانا ..فاتى غض البصر كجزء من المنظومة الاخلاقية ثم ستر المفاتن عبر ما درج تسميته بالحجاب حتى يصبح بمقدور الرجل ان يبصر انسان المرأة بدلا عن الاثارة فيها وبالتالى يتحرر من وطأة الصور الذهنية التليدة . ثم انتقلت التربية الى تنقية الحواس فاتى امر تنقية الصوت من الدلائل الجنسية باعتبار ان نغمة الصوت من الاشارات غير المنطوقة ذات الدلالات الحسية العالية يتم توظيفها ضمن اسلحة ما يعرف بلغة الجسد ..كما اهتمت التربية بتنمية مهارة تعطيل الاستجابة الجنسية للدلالات الحسية الجنسية فاوجدت استراتيجية التخلص من الامراض التى تطمعك اذا خضعت احداهن لك بالقول ! وكذلك تهذيب غريزة الشم بالكف عن التعطر بالعطور ذات الدلالات الجنسية حتى تتخلص الذاكرة من ارثها الجنسى وتستعد لاستقبال الروائح الجميلة بحياد انسانى. وهكذا تنتهى عملية تهذيب الحواس الى حالة من الاصغاء الخاص …له القدرة والرهافة اللازمة لسماع نداء النصف الاخر مهما كان بعيدا وخافتا .. وهذه التجارب التربوية ليست حكرا على الاديان السماوية ففى البوذية والطاوية والكونفوشية يتم اثراء التجارب الروحية عبر التحكم فى الغرائز الانسانية وتدريب الحواس، وأنا هنا لا أحاول إعادة إنتاج الميثولوجيا اليونانية القديمة التى تحدثت عن توأم الروح وفصل الالهة الاغريقية للشريكين الذين لا زال كل واحد منهما يبحث عن نصفه الاخر .. الفكرة التى أنتجت تداعيات من نوع مبررات الحب من أول نظرة بإعتباره حنين الروح الى فصيلها وشبيهها الذى فصمت عنه فعرفته حالما أبصرته ..لاننى أؤمن بأن الانسان بمقدوره صادقا أن يحب أكثر من مرّة بدرجات متفاوتة وفقا لاسباب مختلفة منها النضج العمرى والمعرفى على سبيل المثال ..ففى عمر المراهقة مثلا وفى فورة العواطف وجيشانها لا ينصت العقل الا للاصوات الاكثر جلبة ..لهذا نغرم فى هذا العمر بالنماذج المتطرفة حسيا .. فنطارد نجوم المدرسة والنجوم السينمائيين ونجوم الغناء والكرة وغيرهم وسرعان ما تبدأ بالكفر بهم والتنصل لعواطفك الساذجة حتى إنّك تتساءل مخلصا عن ما دفعك لتغرم بشخص كهذا ! لذلك انا اعول على فكرة تشويش الغرائز على الذات الانسانية وتضليلها عن شريكها فى الاصل ..كمبرر اساسى للتطلع خارج اطار الزوجية ..وهذا التشويش يظهر جليا فى سياسات اختيار الشريك ..ووفقا للرؤية النبوية تنكح المرأة لاربعة  تلخيص للمدارس الكبرى فى علم النفس التى فسرت مبررات الاختيار , ومنها النظرية الاقتصادية للعلاقات التى اعتمدت المدخل الاقتصادى الذى ينظر الى العلاقات من منظور الربح والخسارة، ويفترض اننا ندخل فى العلاقات التى  ترفدنا بالفائدة العظمى .ووفقا لهذه المدرسة يتم اختيار الشريك وفقا لمراحل محددة تبدأ بالبحث والعرض والالتزام ودخول مؤسسة الزوجية .وهذه النظرية تقوم على نظرية التبادل الاجتماعى التى تقول ان نظرة الناس للعلاقات والسلوك الاجتماعى بصورة عامة هو عقد اجتماعى يقوم على البحث عن خيار افضل نتلقى فيه حافز قبول اجتماعى للنماذج الاكثر قبولا …لذلك ندخل فى العلاقات باختيارنا وننسحب حين تصبح الخسارة اعلى.ومن ذلك  أن هنالك صورة شائعة اجتماعيا للحبيبة او العروس الاكثر قبولا بين العاشقين وطلاب الزواج , كما ان هنالك صورة للحبيب او العريس على ذات القبول يقول( هومان) ان القبول الاجتماعى هو احد اهم المعززات السلوكية .وهكذا تكون النظرية احتوت البعد المالى والقبلى ( الحسب والنسب ), بالاضافة للبعد الجمالى الذى يدخل فى حساب الربح والخسارة من منطق نظرية التطور , التى تقول ان الانجذاب الجسدى يقوم على اساس جينى وصحى ووفقا للمؤشرات الجسدية للخصوبة .حيث اثبتت الدراسات والبحوث على هذه النظرية وفى مجتمعات وثقافات مختلفة ان منطقة الصدر والخصر والكفل هى محددات الانجذاب الجسدى التى تقبع خلف اسس الاختيار الزواجى ومفهوم الجمال ولأننا نعانى من عقدة ( الافريقانية ) تضاف الى هذه الميزات ( الشعر الطويل ). والحب الذى يراه بعض الباحثين مثالا متطرفا للانجذاب , قد يراه البعض غيابا من مبررات الاختيار الزواجى ولكن بعين نظرية فرويد التحليلية يمكننا ان نرى الحب كانعكاس للغريزة اكثر قبولاً من الناحية الاجتماعية . فلدى فرويد كل العواطف الايجابية هى تمظهرات للوازع الجنسى (الليبدو )وان الحب الرومانسى هو دفاعات نفسية وتحولية .

وهكذا تستخلص حكمة الرؤية النبوية الملهمة تمرحلات المبررات الاختيارية للشريك من الحسية المادية الى المعنوية الاطلاقية المتمثلة فى زواج ذات الدين , انتصارا للقيم العليا وهذا يوافق رؤى بعض المدارس التى تتحدث عن الانجذاب للمكون الشخصى والمواقف والمعتقدات . وهذه الاسس فى الاختيار تمنحك فضاءا ارحب للاستمتاع بشخصية جديدة دوما بحياة الفكر مقابل ضياع المتعة الحسية بالاشباع والذى له سقف  محدود . ومن هنا اتت نظرية الاشباع التى تقوم على مبدأ ان اى نقص فى شئ يعلى قيمته .ومن هنا تنكرت فكرة تعدد الزوجات وغيرت جلدها قبل ان تتسلل بطريقة ماكرة الى حيز المبررات العقلانية ..ومهما ارتدت من ثياب ..الا انها لاتعدو ان تكون انعكاس ثقافى للجنسانية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى