السودان من مأزق التجميد الثقافي الى رحابة الاقتدار (17) العلاقة بالطفل
يرى البعض ان العلاقات خارج اطار الزوجية ليست بالضرورة عن الجنس, لكنها عن الالم والخوف والرغبة فى الشعور بالحياة . حيث تمتلئ هذه العلاقات بالرومانسية والأخلاقية والأسطرة والعواطف القوية والكثيفة ويدعم هذه الفكرة الانظمة التربوية و الثقافية المختلفة فى السودان، فمجتمع الهمبتة مثلا بشعره ونسائه وانفلاته الاخلاقى سابقا ومؤسسة الانداية الى اواخر الستينات من هذا القرن معالجات ضرورية لرتق ثقوب زواج تفرضه الاعراف الاجتماعية ويأباه القلب وهذا الفصام لازال حضورا يعاد انتاجه باستمرار فى عقلية الرجل الذى يشتهى انثى يخافها ويتزوج امرأة لا يحس بها ولا يراها .ولاننا _كما سنرى لاحقا _ نتاج أنظمة تربوية قاسية , يولد فينا جوعنا الى الحب والدفء حالة من عدم التوازن تجعلنا ضعيفين إزاء الحب والعبارات الرقيقة عموما ومن هنا يمكن استخلاص استراتيجية لاستدراج الرجال او النساء الى الحب عبر إغراقهم فى سيل من العواطف يستحيل ان يجدوه بعيدا عن الشريك الذى يحبهم .
من المهم جدا الحديث عن أنظمتنا التربوية ومناهجنا التعليمية وتداعياتها فى تكوين الشخصية السودانية وهو عمل راده قبلى كثير من الباحثين الاجلاء , الذين فتحت إضاءتهم بصيرتى على مالم أوت من العلم , ومنهم الدكتور حيدر ابراهيم على فى كتيّبه عن التعليم وحقوق الانسان، والاستاذة زينب عباس فى ورقتها عن صورة المرأة فى المناهج التعليمية فى محاورة ناضجة حول التنميط الجنسى ودور المناهج التعليمية فى تكريس الادوار الجندرية .
إذا مضينا أبعد قليلا من الزمن الذى تتلبس فيه رغبتنا وعشقنا لاخر روحا تمضى الى قدر نعيمها أو شقائها المرتقب .. فإلى أىّ مدى يمكن أن نكون صارمين ونحن نتخيّر لنطفنا بعيدا عن دسائس العرق ومكائد الوراثة ؟ بإعتبار أن الزواج من شخص بعينه قدر تتداخل فيه أقدار أخرى كثيرة أجملها الحب وأعندها العرف وسطوة القبيلة ومن الوقت الذى كانت الزوجة قدحك الذى تجب عليك سترته , لم يكن بمقدورنا أن نخرج الا زاحفين كالسلاحف تحت أثقال الواجب و الارادة القبلية وسطوة الاخر ..والى الزمن الذى صرنا فيه أبناء العشق والهوى يربت علينا برفق الاحبة ونحن بعد أجنّة تحلم بالتحليق خارجا كاحلام الطيف الوردية ..
لاشكّ أن عوامل كثيرة تلك التى تضعك فى قرارك المكين , مشكّلة بذلك جذور الاختلاف التى تجعل كل فرد قائم بذاته مهما تشارك مع إخوته بيئة تربوية ووراثية وإجتماعية بعينها فهنالك عوامل إختلاف أخرى قد تبدو صغيرة ولكنها ذات أهمية كبرى كترتيبك بين إخوتك مثلا أو وجودك كصبى بين الفتيات أو فتاة بين الصبية وغيرها من التفاصيل التى تخلق لك وإن جاز لى التعبير بصمة نفسيّة خاصة بك ..وفترة الحمل هى من المراحل التربوية التى لها وهنها المعنوى الخاص ..أذ فى الفترة التى يبرز فيها بطنك كأنثى تربّت على كبت تطلّعات الجسد , تتضايقين من أسرار عشقك المعلنة وكأنك تجولين بفضيحة تجعلك تتحاشين النظرات والتى تبدو لك دوما هامزة ومتغامزة ..نخجل ونرفض دوما أجمل ما فينا! أنوثتنا التى تخلّقت فيها بذرة الحياة وحفظت كلمة الله وأسرار الروح ..لأجل هذه المعجزة الانثوية عبدت مجتمعات الخصب الامومية المرأة وقدّستها منذ عشتروت التى يتقرّب لها ببكارة العذراوات للغرباء فى المعابد ..!
تقضى المرأة فى السودان زمنا قبل أن تتهادن مع جسدها ..فتعالوا نرقّى حسّنا تجاه الامهات فى رهق الحمل إحتفاءا بقداسة المهمّة وعشقا للصغار القادمين , ولنوزع الابتسامات التى تحمل الاعجاب والتقدير ونؤثرهم بالمريح من المكان والثياب والمفيد من الغذاء ..فلنشعر بالراحة فى حملنا علينا أن نقطع مشوارا بين الخجل من الجسد والفخر بمقدرات هذا الجسد ..!حكى لنا أحد الاساتذة الموقّرين أن إبنته أخفت خبر حملها الاوّل حياءا من أسرتها وأملا فى أن يكبر بطنها بعيدا عنهم , إذ كانت فى طريقها الى زوجها بالخارج فاكتشف أخوها الامر مصادفة إذ كان عليه صحبتها الى الطبيب , فحذّرته من إشاعة الخبر فصار هو ليغيظها يتجوّل فى أنحاء المنزل وهو يحمل جواز سفرها مردّدا : حامل هذا الجواز ..حامل ..حامل هذا الجواز ..!
صحيح أن الله قد مكّن لهذا الجنين فى مستقرّه , الا أنّ هرمونات الضغوط النفسية بمقدورها أن تطارده بضراوة جيش من النحل , تنغّص عليه عيشه , وقد أفادت بعض الدراسات أن فترة الحمل بضغوطها المختلفة , خصوصا رفض الام لجنينها فى فترة الحمل يلعب دورا فى تشكيل شخصيته مستقبلا .ولان الطفل يخرج أعزلا لهذه الحياة فعلينا أن ندركه بأكثر من وثيقة للحقوق .وأولاها أن يسعد بفترة حمل آمنة وهادئة ما أمكن ..ينال فيها التقدير والاعتراف اللازمين .ولكل طفل الحق فى الحصول على والدين شرعيين , يقرّهم العرف والمجتمع .وأن تتوفر له تجربة ميلاد آمنة وصحيّة . وعبر العلاقة مع والديه فى العام الاول بالذات يكوّن الطفل فكرة عن العالم الذى يعيش فيه والى أى حد يمكن إعتباره مكانا آمنا وودّيّا .وعبر العلاقة مع الام أو راعى الطفولة الاوّل يتعلّم الطفل الثقة فى ذاته والاخرين .وربّما فى السودان الذى يحظى فيه الاطفال عادة بفضل الاسر الممتدة بأكثر من أم وأب , أن السقف الادنى من الحماية متوفّر . غير أن علينا إيضاح ضرورة أن تقوم هذه الرعاية على التفاعل الايجابى مع الطفل , فمثلا جاء فى كتاب الإساءة والجندر لبعض الاساتذة الاردنيين :( لكن هنالك تفاوت فى نوع الرعاية ومستوى الحب الذى يقدّمه الاباء والامهات لاطفالهم فهنالك بعض الامهات اللواتى يعتنين باطفالهن دون الشعور بالرضا , إذ يقمن بواجب كريه مفروض عليهن فيؤدينه ببرود دونما قدرة على نقل الحب لاطفالهنّ وذلك خلافا لبعض الامهات ممن يبالغن فى إظهار الحنان والعطف , بحيث يكونون أطفالا لحوحين يصعب إرضاؤهم ).ويشكل كل من بعدى المطالبة والاستجابة المحاور الاساسية التى تنتج أنماط التنشئة المختلفة , فقد إنتهت إحدى الدراسات الهامّة فى علم نمو الطفل والتى أجرتها الباحثة ديانا بومرند على الاطفال قبل المدرسة الى أن درجة مطالب وتوقعات الوالدين من أطفالهم ومقدار السيطرة التى يمارسونها عليهم بالاضافة الى مدى إستجابتهم وتفاعلهم معهم , هو الذى يحدد نمط التنشئة المتّبع لديهم وتداعياته السالبة والموجبة على الاطفال .وللامانة أن جهود علماء التربية والنفس فى أىّ مكان من العالم ليس من شأنها إعطاء أى ضمانات بخصوص وصفة تربوية بعينها بمقدورها أن تعطى طفلا بنتاج تربوى محددّ كأى ثمرة بازلاء يتلاعب بها مندل ونظرائه . إذ غالبا ما تفاجئ ثمرة البازلاء البشرية علماء التربية والنفس بأنها وجدت لها طريقا بعيدا عن توقعاتهم وعصيّا على التنبؤ ..! ولكن مما لا شكّ فيه أن هذه الدراسات الحيّة وتراكم الخبرات التاريخى ولّد معرفة ما فى إتجاه يجنّب أبناءنا ما أمكن التجارب السالبة , يبتدرها بحرب على رغبات وطموح الوالدين فى صياغة أبناءهم كما يشتهون , ممزّقا بذلك صك الملكية الذى بموجبه يتصرّف الوالدان فى إبنائهما وفق ما يرتأون الى أقسى حدود الضرب وما عرفته مجتمعاتنا من أنماط التأديب القاسية باسم الحب والخوف الابوى والامومى .. لتنزع هذه المعارف السوط من أيدينا لتمنح أبناءنا فرصة النمو على كيفهم فى كنف الحب والرعاية المنضبطين .
فى السودان وفى غياب مفهوم الوقت وحضور الواجبات الاجتماعية على حساب الواجبات الاسرية والتربويّة الملحّة , يفتقر الاطفال الى الروتين الضرورى لتنظيم ساعات الاكل والراحة القائم على ضبط هرمونات الجسم بصرامة من شأنها أن توفر الراحة الجسدية والامن العضوى . والطفل فى السودان (جاهل ), والجاهل بالضرورة شخص يجهل ما يحيط حوله مما يخلق لاسرته والاخرين مبررا لاستثمار هذا الجهل على طريقتهم التى تريحهم . والمخيف فى الامر أن هذا الامر معكوس تماما فجهل الاسرة بالحضور الذهنى للطفل هو السبب فى أن ينمو الطفل فى غفلتهم على ما أهملوا من تفاصيل وأخطاء , يقلّدون والديهم فى أدق الخبايا ويبنون وعيهم تجاه المجتمع والناس من بقايا خبرات لم يجتهد أبطالها فى إخفاء نواقصها ..لهذا نبّه الرسول (ص) الى ضرورة الصدق إذ يتعلّم الاطفال بالنموذج ,فمن قال لصبىّ هاك ولم يعطه , هى كذبة ردّت إليهم . وقد قال على بن أبى طالب وطّنوا أطفالكم على غير أخلاقكم فقد خلقوا لزمان غير زمانكم . فحكاية لفظة ( أولاد الزمن ده ) هى لفظة لاتكاد تبارح شفة أب أو كبير . وتجاهل أن الاطفال يستمعون ويشاهدون ويقلّدون , هى السبب وراء تكريس الاخطاء التربوية .
ينمو الاطفال فى السودان فى ظل إمتهان كامل لكرامتهم بسبب الجهل بالطفل ومراحل نموه وتطوره وحاجاته الانسانية وقدراته المعرفية .فمثلا يقضى الاطفال معظم أوقاتهم عراة فى ثقافات يلبس فيها الكبار كنوع من عدم الحساسية تجاه حرمات هذا الجسد وخصوصيته . فلا يعى الطفل لجسده حرمة , وبالطبع لن يدرك المسموح للاخرين مشاهدته من عدمه . ومن هنا تسللّت الاساءة الجنسية للاطفال بإرباكها لعقلهم الذى لا يكاد يدرك الحدود المفروضة للصواب من الفعل . وعلى هذا النسق من غياب الحقوق ينشأ الطفل على عشوائية حياتية تفترض جهله وهو عليم , فيترسخ فيه الشعور بالنقص والدونية وهو بعكس الكبار يتناول طعامه جلوسا على الارض , دون غسل اليدين بالطبع قبل الاكل وبعده فى حماية الله الكريم البصير .وفى أمسّ الحاجة الى الغذاء المتوازن والنمو يقتات الاطفال فتات موائد الكبار التى تخلومن المطايب وماهم أحوج اليه من غيرهم . كما يشكلون فى معظم الاوقات قرود التسلية لدى الكبار فى تغييب كامل لشخصيتهم , إذ نفرض عليهم ما يناسبنا من لبس وفى الوقت الذى نريد . كما نصر على سجنهم فى أوضاع محددة وتساريح بعينها ترضى أذواقنا وتزعج راحتهم . وقد أعجبنى الفيلم الذى قدّمه جون ترافولتا للمجتمع الامريكى بعنوان أنظر من يتحدّث أيضا ..حيث شكّل الفيلم خلخلة للبنى الفكرية المجتمعية عن الاطفال فى قالب كوميدى ساخر منح الاطفال فما للحديث والتعليق على ما يراه الوالدين والكبار عموما صوابا ..
وهذا الفيلم وغيره من المحاولات الاكاديمية الجادّة , تهدف الى التعريف بالطفل خارج ما ألفته المجتمعات , للتبصير بإحتياجاته ورفع نسبة الوعى بادراك ردود فعله ومواقفه الحياتية اليومية …
ونحن وإن كنّا نعوّل على اطفالنا أن تحظى بريش أقوى مما لدينا يساعدها فى التحليق المتفائل خارج القطرميز علينا أن نقارب سلوكنا التربوى اليومى على ضوء المعارف الانسانية الحديثة لنرى أين نقف ولاى عصور سحيقة وكارثية نجرجر أبناءنا من الصواعق حذر الموت …
فى عتمة القطرميز , غيابة الجبّ وزمهرير الأزمات ..يبقى الحديث عن الأطفال الزاد الوحيد المدّخر لرهق الدروب القادمة , نشحذ له ما تبقى من أنفاس ونرقبه بعشم النبى يوسف لدلو أحد السيارة , رحلة الانعتاق الطويلة من كيد الإخوة والنسوة وظلمات السجن عبر الطريق المفضية إلى قلب إمرأة العزيز ..إلى الزمن الذى نصير فيه الآمرين والقادرين على أن ندسّ المكاييل فى رحل من نحب أحرارا وبغاة قادرين على الظلم وأن نؤذّن للعير متى شئنا انّكم لسارقون….!!
متى ما فرغنا من دهشتنا القريبة , وتعمّدنا أن نكون آباءاً وأمهات حقيقيين ,مستعدين لمعترك التربية الواعية والمدركة حتى لا يرشقنا المعرّى الذى ننجبه بحصباء
هذا ما جناه أبى علىّ وما جنيت على أحد..!
إذ يأتى الأطفال فى السودان لازم رغبة , تماما كنداء البيولوجيا الليلية التى توقظك بنفس الطريقة لتفرغ مثانتك ..عندما نأتى إستجابة لدعوات قضاء الحاجة نأتى عجولين وكيف ماإتفق ..لا متراخين وعلى كيفنا ..!!فمن الذى يتخير لنطفه الوعاء المعافى من دسائس العرق ومكائد الوراثة..؟ومن الذى يعد نفسه نفسيا وإقتصاديا وصحيّا وإجتماعيا لمسؤلية الابوة أو الامومة ..؟ وحتى متى نحمل أطفالنا كرها لا شوقا ..لأجلنا لا لأجلهم ؟!
يولد الأطفال فى السودان والدول النامية كالعبء الذى ينقض الظهر , وتحمله أمّه وهنا على هم .. نضيفهم إلى الأفواه المفتوحة والبطون التى تحتاج الى مدّخراتنا وما نشتهى من أمان .ننجبهم لنتخلص بهم من مطاردات الأهل وملاحقاتهم بحثا عن مزاعم لثرثراتهم الليلية عن عقم العروس أو عجز العريس الجنسى , يفعلونها وهم يترقبون بطن العروس التى إن لم تكبر فويل لها من لسان لا يعرف الحدود وإقتراحات لشجارات ليلية قادمة وزوابع رعدية أعنف من أمشير وزعابيبه لتنتهى القصّة بالحمل الذى لا تعرف الاسر ما تفعل به فتعلقه كالذهب فى رقاب الاغنام مهدرة بذلك أغلى الحجارة الكريمة فى العالم ..أطفالنا ..