أعمدة ومقالات

(لا خير فينا إن لم نقلها..!)

كما تشكّل بيئة حاضنة ينسج فيها الإنتهازيون بطولاتهم ويحصدون على شرفها الأوسمة..ويملأون جيبوهم التي لا تعرف الشبع مستثمرين في نزاهة البسطاء..مسكنتهم وخوفهم من الغيب..إنّ الذي ابتدع صكّ الغفران ليثرى على حساب الشعوب الجاهلة ذات التدين البسيط..شعر بالحيرة والإرتباك حين وظّفت حكايته ضدّه..فعندما سرق أحد الجوعى في شوارع باريس صك الغفران من أحد القساوسة..قال له يابني ..عد ليغفر الله لك..فرد عليه اللص بإستغراب: سيغفر الله لي لأن الصكّ معي!..حين تآمر إخوة يوسف وجاءوا أبوهم عشاءا يبكون بدم كذب..كانوا قد صنعوا بفعلتهم أرضا خصبة للشكوك..وعندما دس يوسف صواع الملك في رحل بنيامين أخيه..كان إخوة يوسف في هذه المرّة لم يعمدوا الى حرمان ابيهم من بنيامين.. ولكن..يعقوب النبي..الذي يريد تربية أبناءه..رغم ما عنده من العلم..قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا..ووضع رجاءه في الرب إذ قال : عسى ربي ان يأتيني بهم جميعا..والدرس المستفاد..ان بناء الثقة أمر شاق..وما تبنيه في سنوات بمقدور كذبة صغيرة  أن تهزمه..على ضوء هذا دعونا نراجع..حمّى ساندرا كدودة التي انتابت الأسافير السودانية وتصدّرت صفحات الجرائد بعناوين أساسية…ليس من باب ماذا حدث؟ ولكن لماذا يحدث هذا أصلا..؟

جهاز الأمن الوطني ..المفترض أن يكون ذراع الدولة لتحقيق العدالة والأمن في المجتمع..وبحكم المسئولية العظيمة الملقاة على عاتقه يحصل هذا الجهاز على الكثير من الصلاحيات التي من المفترض ان تكون لدعمه في أداء مهمته وعلى قيادة الدولة أن تتأكّد وتحتاط بالقوانين اللازمة التي تحرص على ان يؤدّي الجهاز الأمني دوره المنوط به دون أن يتكسّب ضعاف النفوس من الامتياز بطريقة تخدم أغراضهم الشخصية ..لقد ظل كثير من المهتمين بالشأن القانوني والعام يؤكدون ان قانون الأمن الوطني بحاجة الى مراجعة..لاسيما حين يسمح القانون بإحتجاز شخص دون علم زويه او محاميه في لحظة اعتقاله..إنّ خلق بيئة كهذه يجعل الكثيرين يتساءلون مثلا: إذا أوقفني أي شخص في الشارع بإدّعاء أنّه رجل أمن بينما هو قاطع طريق ومغتصب مثلا ؟ ماذا أفعل؟ وماذا يفعل الذين يراقبون المشهد في هذه الحالة؟ لمجموعة تدعي انها تنتمي للأمن وتعتقل فتاة في منتصف الطريق؟!..من المفترض ان تكون ملابسات الإعتقال دائما تعبيرا عن قيم الإنصاف والشفافية والعدالة وان لا تخلق البيئات التي تهدّد أمن المواطن..والتي يتحينها المجرمون وقطاع الطرق متخفين بأقنعة أجهزة الأمن..

بالنسبة لي لم يقم جهاز الأمن في تاريخه بإعتقالي..وبالتالي ليس لدي خبرة شخصية عن الحكايات التي تحكى عن بيوت الأشباح والتعذيب وماشابه.. وقد فتح جهاز الأمن عدّة بلاغات من قبل عن إشانة السمعة ضد كتاب وصحفيين انا من بينهم..أمر يعبّر عن حرص الأجهزة الأمنية على ان تبدو بصورة لائقة..لكن ماذا أعدّت الدولة من قوانين لتضبط عمل الأجهزة الأمنية؟ وهل الأجهزة الأمنية فوق الرقابة والمحاسبة؟ حين حدثت أحداث ابوغريب..تساءل المجتمع العدلي والرأي العام عن البيئات الحاضنة لهكذا ممارسات…السلطة المطلقة فساد مطلق.. لا شك في ذلك..اذا كنت تخلق بيئات حاضنة للإستغلال..فستكون انت اول المتضررين منها…

حين يسمع اي شخص حكاية من نوع: ان فلان تم اعتقاله وتعذيبه من قبل جهاز الأمن..او مثلا: حين استوقفه جهاز الأمن وقاموا بضربه واعتقاله دون اسباب ومنعه من زيارة اسرته ورؤية محامية..هكذا حكايات..تفرخ حكايات أخرى..وسيأتي يوم ..لن يكون الناس راغبين حتى في تصديق أن جهاز الأمن يمكن ان يكون بحسنة واحدة..فمثلا ملابسات الإعتقال التي تشبه الإختطاف هذه..إن قصد بها مثلا تسريع التدخل الأمني لكي لا يهرب المتهم فإنها سرعان ما تصير جزء من الخلفية الموسيقية لمسلسل رعب يشعر فيه الإنسان انه فاقد للسيطرة على مصيره وهو جزء من التعذيب النفسي الذي يتعرض له الشخص الموجه له الإتهام..واذا كانت هذه المقدمة فمن السهل لي ان أصدق ان التفاصيل والخاتمة متناسبة تماما مع هكذا بدايات…

ان الثقة التي تبنى في الأجهزة العدلية عبر سنوات طويلة تهدمها كذبة صغيرة…او بيئة حاضنة للأكاذيب والشائعات والخرافة..

كان لدينا زميل في الجامعة يتسكع طول السنة ليرسب في نهايتها..فسألته ذات مرة عن التقنيات التي يمارسها على أسرته والمبررات التي يسوقها اليهم..ردّ ضاحكا انه يستثمر في بنية الوعي الأسطوري لديهم..ويوظف مسلماتهم ضدّهم..ببساطة قال لي : انا ما محتاج مبرّرات..أنا من زمان معروف أنّو كاتباني مرة أبوي!…لقد صمم العقل الأنثوي مقاومته السريّة ضدّ الزوجة الثانية..ونجح في جعلها شيطانا..فإذا كانت ملاكا بأجنحة..ستكون في مواجهتها معركة طاحنة ضد تاريخ من السمعة السيئة والحكايات..قبلت هي الدخول فيه بإرادتها يوم وافقت ان تكون زوجة ثانية..!

هنالك طريق واحد بإتجاه الثقة وبناءها..إصلاح القوانين ورفع الحصانات..ولكم في الملك سلمان وولي عهده أسوة حسنة..ولكم في فاتح سمر قند.. قتيبة ابن مسلم الباهلي..قدوة حسنة..حين لم يرفض الخضوع للمحاكمات العادلة التي أجبرته وهو المنتصر ان يسحب جيشه من سمر قند قبل ان تبرد رواحله..وقد فعل..لا كبير على الحق ولا كبير على المحاسبة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى