كلمة التغيير في ذكرى “المجزرة”: لا مصالحة إلا بعد كشف الحقائق وإنفاذ العدالة!
كان يوم الثالث من يونيو 2019 الموافق للتاسع والعشرين من شهر رمضان يوما عصيبا وفاجعا للشعب السوداني الذي كان يتنفس عبير ثورة ديسمبر الظافرة، “مجزرة فض اعتصام القيادة العامة” لم تكن الأولى أو الوحيدة في تاريخ السودان المستقل الحافل بجرائم الحرب والابادة الجماعية، ولكن قسوتها وخطورتها تكمن في أنها وقعت في أعقاب ثورة شعبية مجيدة، فكانت تلك الجريمة محاولة لوأد “حلم وطني كبير” شكلت ساحة الاعتصام بكل تفاصيلها الملهمة من وحدة وطنية، وتعددية متعايشة بتسامح وإيجابية، وتضامن اجتماعي فريد وعبقريات إدارية و فنية وابداعية متفجرة، كانت صورة مصغرة لسودان المستقبل الذي يجسد أهداف الثورة”حرية سلام وعدالة”، كانت ساحة الاعتصام رمزية لانتقال البلاد إلى عهد جديد مختلف عن عهد الاستبداد والفساد والقتل المجاني وإفلات المجرمين من العقاب فارتكبت تلك الجريمة البشعة لتحطيم هذه الرمزية وإعادة الشعب السوداني إلى حالة “اليأس من التغيير” ومن ثم تدجينه من جديد للخضوع لشمولية قديمة بوجوه جديدة ولكن هيهات! أثبت الشعب بخروجه في مظاهرات تاريخية في 30 يونيو 2019 ان جذوة الثورة خالدة وان لا عودة إلى الوراء! فتراجع “المجلس العسكري” عن مخططه للهيمنة الكاملة وقبل بفكرة الشراكة التي انتجت الحكومة الانتقالية الحالية، ولكن ما زال هناك بطء وتعثر في إنجاز الخطوات المفتاحية اللازمة لوضع البلاد في مسار ناجح للتحول الديمقراطي وصولا الى انتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية.
ومن أهم الملفات التي لم تفتح بجدية ملف “العدالة الانتقالية” الذي يتطلب إصلاحات جذرية للمؤسسات العدلية وعلى رأسها القضاء والنيابة العامة، وإصلاح القوانين.
العدالة الانتقالية من أهم مطلوبات المصالحة الوطنية الناضجة التي تقود للاستقرار السياسي.
أكبر امتحان في مجال “العدالة” يحاصر الحكومة الانتقالية الآن هو تحقيق العدالة ضد المجرمين الذين ارتكبوا “مجزرة فض الاعتصام”، حتى بعد ان يتم الإعلان عن نتائج التحقيق الذي أجرته اللجنة المستقلة برئاسة المحامي والقانوني نبيل أديب، سيظل تحدي الاختلالات الكبيرة في النظام العدلي التي لم تعالج حتى الآن عقبة كبيرة، فضلا عن عقبة أكبر وهي مدى توفر الإرادة السياسية لبعض مكونات السلطة الانتقالية لإنفاذ حكم العدالة الذي يستوجب أولا كشف حقيقة ما جرى بشفافية وصدق واحترام لدماء الشهداء التي أهدرت.
أي حديث عن مقايضة العدالة بالاستقرار عبر استبدال المحاكمات الجنائية بمصالحات مجانية لن يكون سوى وصفة خائبة لخسارة العدالة والاستقرار والمصالحة في آن واحد!
المخرج الإنساني والديمقراطي والأخلاقي لبلادنا من مأزق الاحتقان الناتج عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هو عملية جادة ومهنية للعدالة الانتقالية.
ختاما: تحية المجد والخلود لشهداء مجزرة القيادة وكل التبجيل للجرحى والمفقودين والمغتصبات وذويهم، ويجب ان تتذكر الحكومة الانتقالية ان مآلات هذه القضيةأمر مفصلي في تقييم طبيعة التغيير الذي يحدث في البلاد.