كلمة التغيير

كلمة التغيير: حتى تنجح ثورة ديسمبر في تكريس الديمقراطية كخيار شعبي

أحيت ثورة ديسمبر المجيدة الأمل في التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السودان، ومن ثم أعادت الوطن مجددا إلى “منصة التأسيس” وأسئلتها المركزية ولا سيما سؤال “كيف يحكم السودان” وهو سؤال رغم تكراره واستهلاكه في الخطاب السياسي ما زال يبحث عن إجابة صريحة وشفافة تتجاوز العبارات الإنشائية والنفاقية منزوعة المصداقية والإرادة إلى إجابة تاريخية حاسمة تضع حدا للحلقة الشريرة (نظام ديمقراطي هش وضعيف يعقبه انقلاب عسكري دكتاتوري فاسد تطيح به انتفاضة شعبية فيعود النظام الديمقراطي بذات الضعف فيعقبه انقلاب عسكري جديد وهكذا).

إن التجربة الوطنية في السودان الذي حكمته الأنظمة الدكتاتورية 53 عاما من عمر الاستقلال وكان آخرها نظام شمولي جمع بين سلبيات الدكتاتورية العسكرية التقليدية وموبقات الآيدولوجيا الإسلاموية وتسلطها باسم الدين، خلاصتها  هي فشل الدكتاتورية بكل صورها وأشكالها في إنجاز أهداف ما بعد الاستقلال وعلى رأسها الوحدة الوطنية والتنمية الشاملة و المتوازنة والانعتاق من أسر التخلف في ظل نظام حكم يحظى بالشرعية الشعبية ويتمثل قيم الحكم الراشد.

هذه الخلاصة يجب ان ترجح كفة النظام الديمقراطي كخيار استراتيجي للشعب السوداني لا مساومة حوله، ولكن باستقراء ردود الأفعال الشعبية على الانقلابات العسكرية  التي تتراوح بين الترحيب والارتياح أو اللامبالاة، وبرصد الممارسات العملية للأحزاب السياسية سواء الحاكمة أو المعارضة في “التجارب الديمقراطية” الثلاث، يتضح أن الديمقراطية كثقافة سياسية غائبة إلى حد كبير عن الشعب بوجه عام وغائبة كذلك عن النخبة السياسية والفكرية القائدة للمجتمع . وهذا ما يجعل بعض الأحزاب تختصر الطريق إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري، ثم تجد لها قاعدة داعمة ومؤيدة تبارك وتفلسف  الدكتاتورية من المفكرين والمثقفين النوعيين، وما يزيل الحرج عن الانقلابيين والنخب التي تنحاز لهم  غياب الردع المعنوي والرفض المغلظ من عامة الشعب وبصورة مبدئية لفكرة الاستيلاء على السلطة بالقوة.

صحيح الشعب يثور وينتفض ويقدم التضحيات في مواجهة الدكتاتورية، ولكن ذلك يحدث  كرد فعل على الضغوط المعيشية وانهيار الخدمات والفشل في إدارة البلاد والانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان التي يتورط فيها النظام الدكتاتوري، ولكن فكرة ان صندوق الاقتراع الحر النزيه هو الطريق الوحيد المشروع لحيازة السلطة السياسية وان لا شرعية لأي نظام استولى على السلطة بالقوة مهما كانت المبررات، ومهما كانت انجازات الانقلابيين، هذه الفكرة غير راسخة في الوعي الشعبي العام، وليست جزء من ثقافة المجتمع السياسية ، والمصيبة الأكبر ان هناك نخبا سياسية وفكرية وأحزابا تتناقض مرجعياتها الفكرية أساسا مع الديمقراطية  تساهم مع سبق الإصرار والترصد في تنفير الشعب من الخيار الديمقراطي استنادا لسوء أداء الاحزاب السياسية في العهود الديمقراطية.

إن توطين الديمقراطية في السودان وتحويلها إلى ثقافة سياسية عملية تاريخية طويلة،  تحتاج للعمل المنظم في عدة جبهات تشمل الفكر والثقافة والتدريب السياسي والإصلاح الحزبي والمناهج التعليمية  والإصلاح الديني وإدارة حوارات قاعدية مستمرة حول جدوى الديمقراطية وارتباطها المباشر بنهضة وتطور الوطن  وحفظ حقوق وصيانة كرامة المواطن، وفي هذا السياق لا بد من دور تاريخي لمنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الإعلام الديمقراطي وكذلك الفنون من دراما ومسرح.

ولكن العمل على توطين الديمقراطية وربطها عضويا بوعي الشعب للدرجة التي تجعله  ينظر الى النظام الديمقراطي كشرط لتحقيق مواطنته الكاملة وحماية مصالحه وتطوير معاشه ومن ثم يكون مستعدا للاستبسال في الدفاع عنه، لا ينحصر في الفضاءات النظرية والجدل الفكري، بل يتطلب  أيضا تدابير سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وإدارية ينجزها الفاعلون السياسيون في اتجاه دمقرطة الفضاء العام، لا سيما في الفترات الانتقالية، وكذلك يحتاج الشعب الى ان يرى بأم عينيه تجربة ديمقراطية ناجحة وملهمة تستعيد ثقته في جدوى النظام الديمقراطي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى