الرَّسمُ الدَّارسُ هنا لا أعني به السودان، فهو لن يدرس بإذن الله، بل سيظلُّ جنَّةٌ من جنانِ الأرضِ كما سيبقى شعبه من أرفعِ الشعوب رغم ما رانَ على القلوب الزَّكية من إعادة صوغٍ فاسدة قام بها أقل أهله ديناً وخُلُقاً.
للأستاذ محمود مقولات مشت بها الرُّكبان، قال الأستاذ: «الشَّعبُ السوداني شعبٌ عملاقٌ يتقدَّمه أقزام»، كما قال أيضاً إنَّ «الرجل الحُر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر ويعمل كما يقول، على شرطٍ واحدٍ هو أن يكون كل عمله خيراً وبرَّاً وإخلاصاً وسلاماً مع النَّاس».
أُبتلي السودان عبر عهوده المختلفة بالكثير من السَّاسة الذين يفتقدون إلى قيمتي الصدق والزهدِ معاً فلا تعدو السياسة عندهم سوى ضروبٍ من المخاتلة، ووسيلة من وسائل التكسُّب في المناصب والأموال فأوصلونا إلى ما نحن عليه الآن من انقساماتٍ وحروبٍ وشظف عيش.
في بدايات المرحلة الانتقالية أكدت بعض أحزاب الحرية والتغيير عدم رغبتها في المشاركة في الحكومة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك موضحةً أن المشاركة الحزبية ستؤدي إلى محاصصات «تحصيص» ومشاكسات لا طائل من ورائها. أورد هنا نموذجين من قول أكثر هذه الأحزاب تأثيراً في الممارسة السياسية الحالية، هما المؤتمر السوداني والأمة، فقد قال حزب المؤتمر السوداني «إنه لن يدفع بأي مرشح من عضويته في المجلس السيادي أو الوزراء، ودعا للنأي عن أي شكل من أشكال المحاصصات الحزبية التي تحرف الثورة عن مسارها وتحولها لمحض تسابق على الكراسي». بينما قال حزب الأمة، «إنَّ الحزب لن يشارك في الحكومة الانتقالية، ولن يشارك في المجلس التشريعي وحكومات الولايات، وسيقوم بتقديم المشورة لرئيس الوزراء لاختيار أعضاء حكومته، بعيداً عن المحاصصة الحزبية والقبلية، إنَّ المشاركات الحزبية تقود إلى الكثير من المشاكسات والعقبات، ونريد أن تمر تلك المرحلة بوفاق تام بين كل القوى والأحزاب السياسية».
استبشرنا وقتها خيراً بممارسة سياسية راشدة، وقلنا ها نحن مقبلون على حكومة انتقالية سيكون كامل همها المواطن بعيداً عن الأهداف الحزبية الضيقة، وها هم قادة أحزابنا قد وعوا الدرس جيداً وعرفوا أخيراً مقام الزُّهد، لكن سرعان ما خاب الأمل، فقد عمدت أحزاب الحرية والتغيير إلى تسريب كوادرها إلى مفاصل الدولة المختلفة، دافعةً بعضويتها إلى مجلسي السيادة والوزراء وولاة الولايات، ليس هذا فحسب، بل إلى مؤسسات الدولة المختلفة فمن لم يصبح وزيراً عُيِّن مستشاراً لوزير أو مديراً لمكتب وزير أو مديراً لمؤسسة، وقس على ذلك، لم يستثنوا حتى مديري المستشفيات الحكومية من هذا الاقتسام فتأمَّل!
المُدهش والمحزن في الأمر أن هذه الأحزاب ظلت تتحدث عن فساد الإنقاذ وتمكينها لعضويتها، وفي الوقت الذي تعمل فيه لجنة إزالة التمكين على فساد أهل الإنقاذ تعمل الحرية والتغيير بشغف كبير وهمَّة لا تفتر من أجل خلق تمكين جديد لعضويتها فيما يسمَّى بتسكين الكوادر.
إذاً من كان هذا حاله، فلا خير يُرجى للشعب من ورائه، ولا يعوَّل على تغييرٍ قد يحدث في حياة الناس عبر وزراء الحرية والتغيير القادمين، بل هو استيلاء أكبر على السلطة وزيادة في الصرف على أهلها، فالوزارات تكاثرت لتصل إلى ٢٦ وزارة، وعضوية مجلس السيادة إلى ١٤ عضواً، لا لحاجة الوطن لكل هذه المناصب بل إرواءً لظمأ عضوية الحرية والتغيير والجبهة الثورية إلى المناصب.
يبقى السؤال موجَّهاً إلى حزبي المؤتمر السوداني والأمة:
هل ما تزال المحاصصات الحزبية عندهما تحرف الثورة عن مسارها وتحولها لمحض تسابق على الكراسي؟
مثلما بدأت كتابتي مستشهداً بمقولتين للأستاذ أنهيها أيضاً بقوله «الأزمة أزمة أخلاق قبل ما تكون أزمة اقتصاد، أو أزمة كفاءات، أنا كفاءتي كطبيب بستغلها لمصلحتي الخاصة لأجمع المال، كفاءتي كمهندس، كفاءتي كموظف، كلها بهذا السبيل، وانتو شايفين الأمر بالصورة دي، كأنو في كفاءة لكن مافي أخلاق».