أعمدة ومقالات

القيادة و صنعة الدولة من الصدفة الي العلم و المعرفة

بكري الجاك
كما درجت علي القول لطلابي في افتتاحية كورس عن قيادة مؤسسات القطاع العام والمنظمات غير الحكومية أن اكثر مفرديتين تم استغلالهما في اللغة الانجليزية، و ربما العربية، هما التنمية Development و القيادة Leadership و أنه ليس من الصعوبة بناء أي جملة تشتمل علي مفردة تنمية أو قيادة دون أن يختل المعني الكلي، وكنت أقصد بذلك أن كثرة استخدام هذه المفردات افرغها من معانيها المعرفية الحقيقية بالرغم من أهمية المصطلحين من حيث المعني و المضمون و الدلالة. يمكن تعريف القيادة علي أنها: عملية شحذ همم و تحفيز مجموعة من الناس لتحقيق أهداف مشتركة، وما يجعل هذا التعريف بمثابة السهل الممتنع هو أن الناس لا تستطيع أن تتصور معني للقيادة بشكل مجرد دون ربطها بشخص لذا عادة حينما يحاول الناس الحديث عن القيادة فأنهم يتحدثون عن مهارات و سمات اكثر من حديثهم عن القيادة في نفسها كمفهوم، اي ماذا يحدث عندما يقوم الفرد بعملية القيادة؟
القيادة هي علم قائم متكامل الأركان و له نظرياته و فرضياته، و القيادة لا تعني الادارة رغم أن هنالك تقاطعات بين اختصاصات و اهتمامات المجالين. أول نظرية في علم القيادة تمحورت حول ما عرف بنظرية الرجل العظيم Great Man Theory و لاحقا عرفت بنظرية الخصائص Trait Theory ، و اطلق عليها نظرية الرجل العظيم لارتباط كل مفاهيمها و خصائصها بقادة هم من الرجال من شاكلة الاكساندر الأعظم و نابليون و جورج و اشنطن و غيرهم من الشخصيات التاريخية، و جوهر فكرة الخصائص قائم علي أن القائد الناجح يجب أن يتمتع بخصائص معينة مثل الذكاء و الشجاعة و الهدوء و الحكمة والقدرة علي التفكير المنظم و غيرها. وهذه النظرة هي التي شرعنت لا نتشار افكار من قبيل أن الانسان اما أن يولد كقائد أو لا بما أن هذه المهارات لا يمكن اكتسابها أو تعلمها و قد سيطرت هذه النظرة في الدوائر الاكاديمية حتي اوائل الخمسينات من القرن المنصرم حينما بدأت دراسات تطبيقية و تجريبية بطرح أسئلة من شاكلة كيف لقائد أن ينجح بشكل منقطع النظير في هيئة أو قسم ما و يفشل بالكامل حين يتم نقله الي هيئة أو قسم أو شركة أخري؟
الاجابة علي هذا السؤال كانت بمثابة فتح علمي قاد الي اكتشاف نظرية الطواريء Contingency Theory و جوهر مباديء هذه النظرية هي أن مدي نجاح القائد يرتبط بالدرجة التي يسمح بها السياق (اجتماعي و ثقافي و تنظيمي) للقائد بالتأثير علي تابعيه، و هنالك نوعان من طرق القيادة وفقا لهذه االنظرية هما التركيز علي المهام مما يعني أن القائد سيهتم بالعلاقات الاجتماعية لاكمال المهام أو التركيز علي العلاقات و هنا يكون القائد مهتما بالمهام لبناء علاقات اجتماعية عميقة.
و كتطور طبيعي من نظرية الطواريء تم تطوير نظرية أخري في مجال القيادة عرفت ب Situational Leadership أو القيادة الظرفية، و جوهر هذه النظرية أن السياقات و الظروف المختلفة تتطلب أساليب قيادة مختلفة. ووفقا لهذه النظرية لابد للقائد من الفهم العميق لطبيعة المنظمة أو الهيئة و سلوك افرادها لأن نجاح القائد في آداء مهامه يعتمد علي مدي جاهزية تابعيه و فرق عمله. نظرية القيادة الظرفية لا تتطلب اساليب قيادة مختلفة بين هيئة و اخري بل حتي داخل نفس القسم او الهيئة اذ علي القائد (رجلا كان أم امرأة) أن يقوم بتغيير اسلوبه مع كل فرد من أفراد فريق عمله حسب أربعة شروط تتمحور حول القدرة والرغبة، فاذا كان أحد اعضاء الفريق قادر لكنه غير راغب اي ينقصه الدافع المعنوي فعلي القائد أن يقنع، واذا كان احد اعضاء الفريق غير قادر و غير راغب فعلي القائد أن يأمر، و اذا كان احد اعضاء الفريق غير قادر لكنه راغب فعلي القائد أن يشارك، اخيرا اذا كان احد اعضاء الفريق قادر و راغب فعلي القائد أن يعطيه حق العمل بشكل مستقل أو ما يعرف ب Delegation.
و في مجال علم القيادة هنالك ايضا نظرية عرفت ب Path-Goal Theory أو ما يمكن ترجمته بنظرية السبيل الي الاهداف، و جوهر هذه النظرية يقول بأن القائد يمكن أن يحدد أسلوب و منهج قيادته وفقا لحاجة تابعيه و أفراد فريقه، و يمكن للقائد أن يتنقل ما بين منهج القيادة بالاوامر أو القيادة بالدعم أو القيادة بالمشاركة أو القيادة امن أجل تحقيق الاهداف. و حديثا تطورت العديد من المدارس و النظريات في القيادة الحديثة التي يمكن أن نذكر من بينها القيادة القائمة علي اساس القيم Value-Based Leadership و القيادة الخدمية Service Leadershipالتي يكرس فيها القائد حياته لخدمة الناس. و كل هذه المدارس في مجال علم القيادة هي نتاج تطور و دراسات تطبيقية اصبحت ممكنة نتيجة لتطور أدوات البحث العلمي و التعقيد الذي اصبح ثمة من مكونات الحياة الحديثة، و كل هذه المعارف متاحة لكل قائد لتوظيفها بشكل تكاملي.
أما أحدث نظريتان في مجال علم القيادة هما القيادة المعاملاتية Transactional leadership و القيادة التحويلية Transformational Leadership ، و كليهما ينطلقان من مدرستين مختلفتين في فهم و تفسير سلوك البشر لكنهما يكملان بعضهما البعض. القيادة المعاملاتيه تقوم علي افتراض أن الطريقة الوحيدة التي يمكن حث الناس علي بذل أفضل جهودهم تأتي من التحفيز الخارجي Extrinsic Motivation و علي القائد أن يستخدم الحوافز المادية من مال و غيره لانفاذ الاهداف و تحقيق النتائج. أما القيادة التحويلية تهدف الي السموء بالقائد و تابعيه في أثناء العمل علي تحقيق الاهداف المشتركة، و تقوم علي خمسة عوامل أولهما تحدي طرق العمل التقليدية و تشجيع رؤية مشتركة و تمكين الاخرين علي الفعل و اقامة المثال للسلوك الصحيح واخيرا ربط ماهو عقلاني بارادة عاطفية. و ما يميز القيادة التحويلية عن القيادة المعاملاتيه ايضا أن القائد في القيادة التحويلية يعتمد علي اساليب تحفيز داخليةIntrinsic Motivation مثل الالهام و خلق صورة ذهنية موجبة عن المستقبل تكون بمثابة الدافع للجميع و التمسك بقيم اخلاقية رفيعة.
في واقع الدولة السودانية الموروثة من الاستعمار لم يكن صعود الغالبية الي القيادة السياسية قائم علي أساس المهارات و القدرات التي اكتسبوها من تجاربهم و خبراتهم بل كان صعودهم نتيجة طبيعية لواقع اجتماعي ثقافي لم يفتح الفضاء العام للجميع علي السواء. فاذا كان التعليم الرسمي هو وسيلة العامة الذين لا ينحدرون من بيوتات لها أي بعد طائفي أو ديني أو قبلي أو أي من سبل توارث الامتيازات الأخري فحتي الحصول علي التعليم ارتبط بالمواقع الاجتماعية للأفراد و ليس متاحا للعامة. و في ذلك الزمان كان الاعتقاد أن الانسان اما أن يولد كقائد بحكم الميلاد و الحظوة التاريخية أو لا أما في عالم اليوم و بعد الكشوف المعرفية أصبح الرأي السائد في الدوائر العلمية أن القيادة مثلها مثل اي مجال يتطلب قدرات ادراكية Cognitive Abilities يمكن تعلمها و اكتساب مهاراتها بل الحقيقة أنه لا يوجد أي انسان يمكن أن يولد باي مؤهلات تغنيه عن التأهيل العلمي و المعرفي من تدريب و اكتساب خبرات.
و اذا كتب لنا تجاوز الحوار حول البديهيات الذي اصبح هو السائد في كل شيء، لا أري ما الذي يمنع طاقم الحكومة الانتقالية بمجمله من الخضوع الي دورات تدريبية في فنون القيادة و صنعة الدولة و مثل هذه الدورات عادة تشتمل علي صقل مهارات الذكاء العاطفي، طرق بناء علاقات عمل منتجة، كيفية بناء فرق عمل فعالة تبدأ ببناء الثقة، مهارات التفاوض و فض النزاعات، كيفية التواصل الفعال، تطوير مهارات الاستماع الايجابي، الخطابة و العلاقات العامة. لا ادري سبب واحد لتفسير عدم قيام مثل هذه الدوارت الا الشخصية السودانية التي لم تعتاد علي تقييم نفسها التقييم الصحيح و معرفة مكامن الخلل و نقاط الضعف ومحاولة تطوير الذات و اصلاح الاخطاء بل علي النقيض فقد تعودنا علي الاعتداد بالذات و الاعتقاد بأننا نعرف كل شيء، و لعمري مع انتشار وسائط التواصل الاجتماعي و تراجع سلطة المعرفة بشكلها التقليدي فقد اختلت معايير تقييم المعارف و العلوم من الجودة و التقييم العلمي بواسطة مختصين الي عدد المشاهدات و اللايكات التي في كثير من الاحيان لا علاقة لها لا بالمحتوي ولا المضمون. واذا كنا حقيقة نسعي الي بداية عهد جديد ليس فقط لبناء دولة المؤسسات بل القطيعة مع طرائق التفكير القائمة علي العشوائية و الاستسهال و التبسيط فيجب أن تكون عمليات تدريب المرشحين للمجلس التشريعي قد اكتملت أن لم تكن قد بدأت، ففي امريكا أعضاء الكونغرس الجدد يخضعون الي تدريب علي القواعد البرلمانية وعن دورهم في طرق صناعة القوانين، فافتراض أن هؤلاء الناس الذين سيكونون المجلس التشريعي علي معرفة بدورهم التشريعي الذي لا يتوقف فقط في مراقبة آداء الحكومة فهو افتراض اقل ما يمكن أن يقال عنه أنه خاطيء، صنعة الدولة صارت حرفة و علم و ليس محض كلام و غلاط، فهلا نتعظ.
نشر في صحيفة الديمقراطي السبت 6 مارس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى