خالد فضل
كشفت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي، عن الغرض من وراء الذهاب لمجلس الأمن الدولي لبحث قضية سد النضة الإثيوبي، وهو أنّ المسألة أبعد من خلاف حول المياه، بل يمتد عميقاً إلى صراع حول الهيمنة في المنطقة. وذلك حسبما أوردته فضائية الحدث السعودية 9 يوليو 2021م، هذه نقطة مفصلية تستحق التوقف عندها وتحليلها، وبالتالي التعامل معها من هذه الزاوية.
من الواضح لكل متتبع لتطورات الأحداث حول مشروع سد النهضة أنّ الجانب السوداني كان مستبشراً بقيام السد، وطفق عدد من الخبراء على رأسهم وزير الري الحالي ياسر عباس في سرد فوائد السد على السودان، مع مقارنة الأضرار التي تتلخص في فقدان مائة ألف فدان (جروف) كانت تروى بالفيضان، وهذه يمكن تعويضها بالطلمبات الساحبة.
مشكلة السودان الرئيسة كانت تتمثل في البيانات اليومية حول ملء وتشغيل السد، وهنا تكمن موضوعية وقوة حجة السودان، فخزان الروصيرص القريب جداً من السد يقع بالفعل تحت رحمة ما يحدث فيه، ومنسوب المياه وحجزها وإطلاقها وكمياتها، كل ذلك مرتبط عضوياً بالسد، وهي مسألة فنية في المقام الأول، ولكنها في ذات الوقت تدخل ضمن أقوى عوامل بسط الهيمنة والنفوذ الإثيوبي المزعوم.
أذكر أنّ الأستاذ الصحفي خالد التجاني النور، كان قد أشار إلى مسألة فرض النفوذ قبل بضعة أشهر، في لقاء تلفزيوني ضمه إلى وزير الري ووزير الخارجية المكلّف يومها عمر قمر الدين، أورد د. خالد: أنّه استمع إلى الرئيس الإريتري أسياس أفورقي يوماً ما وهو يحدثهم عن أطروحة مليس زيناوي رئيس وزراء إثيوبيا السابق حين طرح موضوع السد على القيادة المصرية أيام حسني مبارك وعمر سليمان (يرحمهم الله جميعا)، وكيف أنّ مليس قد توعد بتأديب (العرب ديل) عبر خنقهم بالماء، مثلما فعلت فيهم تركيا في نهري دجلة والفرات! وقريبا صرّح وزير الخارجية الإثيوبي، بأنّ قيام السد قد غيّر الخريطة السياسية للنفوذ في المنطقة، كما نلحظ أنّ المحللين والإعلاميين الإثيوبيين الذين يظهرون على شاشات الفضائيات الخليجية، يتحدثون عن السد باعتباره قضية سيادة وطنية إثيوبية، وأنّه مشروع وجودي لإنقاذ الشعب الإثيوبي من الهيمنة والتبعية والفقر، بل يذهب بعضهم لوصفه بالانعتاق من هيمنة مصر والسودان، مشيرين إلى أنّه ومنذ الأزل لم تستفد إثيوبيا من منابع وجريان النيل الأزرق من وعلى أراضيها، وعندما التفتت لجني مصالحها، جنّ جنون مصر والسودان وكأنّ إثيوبيا قد جاءت بإثم مبين.
هكذا يمكن فهم دفوعات الجانب الإثيوبي، وبالتالي النظر في كيفية رد تلك الحجج من جانبنا نحن السودانيين تحديداً، فالأوجب التمعن في مصالحنا الوطنية أولاً، وجعلها هي المعيار لمعالجة الموقف، بالطبع دون إغفال شواغل الجانب المصري، فنهر النيل هو شريان الحياة للشعب المصري دون شك، ولا أتصور أنّ هذه الحقيقة تغيب عن الذهن الإثيوبي بأي حال.
بقي من عوامل بسط الهيمنة والنفوذ في المنطقة، وعبر سلاح المياه، أن نشير إلى أنّ الجانب المصري كان قد طرح على الإثيوبيين تزويدهم بحاجتهم من الطاقة الكهربائية نظير صرف النظر عن قيام السد بهذا الحجم، هذه نقطة تستحق التأمل فعلاً، خاصةً من زاوية محاولات فرض النفوذ من جانب، والسعي للتخلص من الهيمنة لدى الطرف الآخر، إذ بمثلما يسعى السودان عبر إصراره على إبرام اتفاق قانوني ملزم لعمليات الملء والتشغيل للسد، وحتى لا يقع رهينة للسيطرة والهيمنة الإثيوبية، في ذات الوقت يمكن النظر إلى الموقف الإثيوبي تجاه رفض المقترح المصري، ولعل من الشواهد الماثلة هذه الأيام، مشكلة الكهرباء في العراق، والتي تقع ضمن النفوذ والهيمنة والسيطرة الإيرانية، كما هناك حديث يتردد حول تزويد مصر لإسرائيل بمياه النيل، وإن صحّ هذا الحديث يصبح المنطق الإثيوبي أقوى في هذه الناحية، فإذا كانت مصر تبيع المياه لإسرائيل- كما يقال- وهذا يعني أنّها تمتلك فائضاً منه، فلماذا لا تبيع إثيوبيا ذات المياه لإسرائيل مباشرة، وهنا يمكن إبرام اتفاقات تجارية مع مصر، ولعل الجانب الإثيوبي عندما يربط موضوع ملء وتشغيل السد بموضوع تقاسم المياه يشير إلى مثل هذه المواقف، ومصر ترفض هذا الربط بين الموضوعين باعتبار حقوقها التاريخية التي ضمنتها اتفاقية مياه النيل مع السودان في الخمسينات من القرن الماضي.
إذاً تبدو قضية السد متشعبة وشائكة، طالما دخلت إلى دهاليز سياسة فرض الهيمنة والنفوذ، وهي مرشحة لمزيد من التعقيد بتعقّد المصالح والسعي الإقليمي والدولي لفرض الهيمنة والنفوذ، وقد رأينا ميل الجانب الروسي والدول الأفريقية- غير العربية- لمساندة الموقف الإثيوبي في مجلس الأمن، شذّ عن الموقف الأفريقي الكنغو فقط؛ ربما بحكم رئاسته لدورة الإتحاد الأفريقي حاليا!.
كما يمكن النظر من جانب آخر إلى ارتباطات بعض الدول العربية مع إثيوبيا، مثل دولة الإمارات التي حاولت لعب دور الوسيط في موضوع الفشقة، وما أشيع عن مبادرة اقتسام المنطقة وتنميتها بنسب مجحفة للسودان، ولكن هل يمكن الفصل بين أراضي الفشقة والتعنت الإثيوبي تجاه المطالب ذات الصبغة الفنية للسودان؟ نحن هنا نقرأ في عمق صراع الهيمنة والنفوذ، لابد من أخذ كل الإحتمالات، فهل مستبعداً وجود صراع نفوذ بين مصر والإمارات مثلا؟ الإجابة قد تكون حاضرة كذلك من خلال ما يجري في اليمن من صراع نفوذ بين الإمارات والسعودية رغم اشتراكهما معاً في تحالف دعم الشرعية!!.
هناك عنصر إسرائيل مرّة أخرى، فقد انفردت مصر بدور رئيس مع إسرائيل منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1977م وتمكنت مصر من وضع نفسها في قيادة المنطقة بهذه العلاقة مع إسرائيل في وسط إقليمي يبادلها العداوة، الآن تبدو الإمارات أكثر حماساً تجاه عملية السلام الإبراهيمي، مما يعني سحب الدور المصري تدريجياً لصالح دول أخرى على رأسها الإمارات نفسها، وللإمارات مصالح اقتصادية متنامية مع إثيوبيا، وربما هناك دول عربية أخرى تقرأ من كتاب الجانب الإثيوبي في مسألة بسط النفوذ والهيمنة.
هذه كلها فرضيات لابد من وضعها في الحسبان لدى جانبنا السوداني، والذي تبدو مواقفه متذبذبة أحياناً، فالحماسة الشديدة ضد الموقف الإثيوبي لم تكن حاضرةً حتى قبل أشهر قليلة، والحماس تجاه الموقف المصري كذلك لم يكن كما هو عليه الآن، وبروفات العمل العسكري أو التلويح به كخيار أخير، ستكون ساحته هي أراضي السودان ومنشآته المائية مع الأسف، وحتى إذا ما تمّ الأسلوب المخابراتي العتيق بإثارة القلاقل في إثيوبيا واندلعت فيها الحروب الأهلية، فإنّ أول من ينوء بثقل وأعباء تلك الحروب هو السودان، فهلا حسبت دبلوماسيتنا كل هذه العوامل، ووزيرة الخارجية تصرح، بما وراء مياه السد!.