السودان وصندوق النقد الدولي: ما وراء مظاهر العقيدة الاقتصادية
ترجمة-راشد عبد الوهاب
في ٣٠ يونيو، قرّر صندوق النقد الدولي منح السودان الحصول على مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك). تحت مظلة هذه المبادرة، ينسِّق صندوق النقد الدولي عمليات تخفيف وإلغاء الديون للدول المشاركة مع دائنيها الخارجيين، الاحتمال الذي أصبح متاحًا للسودان كشرط مسبق لدخوله في المبادرة، أُلزم السودان بسداد متأخرات ديونه لمؤسسات التمويل الدولية، وهي المهمة التي أُنجزت بصورة كبيرة، بفضل المساعدات والقروض التجسيرية من الدول الخارجية
.هذه المقالة تحلل ما هو خطر المراهنة على قرار الـ(هيبيك)، وتجري مقارنة من تاريخ السودان بعد الاستقلال، لتحليل دوافع شركائه الخارجيين والمانحين
مثقلة بالديون وفقيرة ولكنها أيضًا محاصرةمن الديون، لا سيما من خلال مبادرة الـ(هيبيك)
.في العام 2019م، أطاحت انتفاضة شعبية برئيس النظام العسكري السوداني، عمر البشير، الذي حكم البلاد منذ توليه السلطة، بانقلاب عسكري في 1989م. وفي الوقت الراهن يمر السودان بمرحلة انتقال متفاوض عليها نحو الحكم الديمقراطي
.وتواجه الحكومة الانتقالية ظروفاً اقتصادية صعبة، بجانب تركة ثقيلة من العقوبات المفروضة في ظل النظام السابق. وقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على السودان في العام 1997م، بسبب دعم عمر البشير للجماعات الإسلامية المسلحة في الإقليم
في العام 2014م، شدد الاتحاد الأوروبي العقوبات ضد السودان، بسبب الصراع المسلح في البلاد. رُفعت العقوبات الأمريكية ضد السودان اسمياً في العام 2017م، ولكنه ظل مصنّفاً كدولة راعية للإرهاب بواسطة وزارة الخارجية الأمريكية. هذا يعني أن الشركات الغربية ستظل غير راغبة في الاستثمار في السودان، بسبب الخوف من المقاضاة الجنائية في الولايات المتحدة الأمريكية، ما جعل السودان تحت وطأة نظام من العقوبات الضمنية.[1]
ظل السودان يرزح في متأخرات الديون المستحقة لدى صندوق النقد الدولي والدائنين الدوليين الآخرين منذ العام 1984م، حينما كانت البلاد تحت حكم الحاكم العسكري السابق، جعفر نميري. بعد 1989م، سعت حكومة البشير في البدء لتسديد ديون السودان الخارجية، بيد أن فر العقوبات حرمها من التعاملات الخارجية، ما تسبّب في غرق البلاد في التزامات الديون التي ما انفكّت تتراكم في دفاتر الدائنين. عقب سقوط البشير، ارتفعت آمال العديد من السودانيين بأن يصبح السودان قادرًا على إعادة الاندماج مع الأنظمة الغربية الدبلوماسية، والتجارية والمالية. وبالمقابل، أوضحت الحكومات الغربية ومؤسسات التمويل، أن تجديد مساعداتها واستثماراتها رهين بتسوية السودان متأخراته من الديون، لا سيما من خلال مبادرة الـ(هيبيك)
مبادرة الـ(هيبيك)
أسس صندوق النقد الدولي مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك) في العام 1996م، لتخفيف أعباء الدول الفقيرة من الديون الخارجية، من خلال إلغاء متفق عليه مع الدائنين الخارجيين. على الرغم من احتفاء مؤيدي المبادرة بأنها ستخفّف بسخاء عن البلدان ديوناً لا قِبل لهم بها،أسس صندوق النقد الدولي مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك) في العام 1996م، لتخفيف أعباء الدول الفقيرة من الديون الخارجية، من خلال إلغاء متفق عليه مع الدائنين الخارجيين. على الرغم من احتفاء مؤيدي المبادرة بأنها ستخفّف بسخاء عن البلدان ديوناً لا قِبل لهم بها، إلا أن الباحثة سيلين تان تشير إلى أن الدوافع الأساسية لإطلاق المشروع كانت تتمثل في تفادي الخروج الجماعي لبلدان الجنوب من النظام المالي العالمي، بسبب العجز الموضوعي عن سداد الديون التراكمية نتيجة تقلب معدلات الأرباح، وأسعار السلع خلال العقود المتزايدة. بصورة حاسمة، الوصول إلى تخفيف ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، يكون على مراحل:
أولاً، إصلاحات اقتصادية خلال ستة أشهر قبل مرحلة اتخاذ القرار بواسطة صندوق النقد الدولي. وثانياً، برنامج مستمر من الإصلاحات بين نقطة اتخاذ القرار والإعفاء الفعلي للديون. وفي الواقع كثير من الديون الملغاة في نهاية الأمر لم تكن قد استُغلت للعديد من السنوات، الأمر نفسه سينطبق على السودان، 86% من ديونه الخارجية، هي من المتأخرات. إن معظم دوافع الدول المشاركة تتمثل في تجديد استيفائها الكفاءة الائتمانية، والدخول في أشكال جديدة من التمويل. كما هو الحال في تمويلاته المعتادة، هذه الشروط هي قنوات أساسية من خلالها يؤسس[2صندوق النقد الدولي لأرثوذكسية/أصولية اقتصادية في دول الجنوب
تصفية المتأخرات
بالإضافة إلى الإصلاحات المحلية، الشرط الأساسي لدخول السودان في مبادرة الـ(الهيبيك)، كان تسوية متأخراته لدى صندوق النقد الدولي ودائنيه الرسميين الآخرين، مثل بنك التنمية الإفريقي. هذا الشرط كان مطلوباً لإظهار كفاءة السودان الائتمانية، وبسبب أن الدائنين الرسميين متعددي الأطراف في مرتبة أعلى من الديون الثنائية والدائنين الخاصين في سداد الديون السيادية. ولكن، سودان العام 2021م ليس في موقع يمكّنه من سداد ديون ظلت تتراكم لقرابة الأربعة عقود
وجاء الحل من الدول “المانحة” (مصدرة-رأس المال) من ضمن شركاء السودان الدوليين خلال انتقاله السياسي. هذه البلدان أصدرت مِنحاً وقروضاً تجسيريه لسداد المتأخرات لدى صندوق النقد الدولي وبنك التنمية الإفريقي
ولكن هذا السخاء الدفاق بدوره يطرح عدداً من الأسئلة: لماذا يجعل سداد دين بعينه شرطاً لإعفاء دين أكبر؟ فطالما تتوقف هذه السدادات على تمويل لم يكن في الحسبان من قبل بلدان شريكة، فلا يمكن القول إنها لإبراز جدارة السودان الائتمانية. علاوة على ذلك، لماذا تقدم هذه البلدان الشريكة-وهي من ضمن دائني السودان الأساسين[3] -على أن ترصد موارد لسداد متأخرات تخص نظرائهم الدائنين-بدلاً من إعفاء تلك الديون مباشرة، وإنفاق المساعدات المالية في مشروعات داخل السودان؟
دروس من الماضي
المقارنة من تاريخ السودان ستكون مفيدة.[4] في العام 1970م، أمم الرئيس
لرئيس جعفر نميري البنوك البريطانية والشركات التجارية في السودان، الأمر الذي فتح عليه مطالب متعددة بالتعويض من قبل الشركات المساهمة فيها.[5] ونتيجة لذلك، تقلص حجم التمويل التجاري ورؤوس الأموال من البلدان الغربية بصورة كبيرة.
في العام 1973م، عاد نميري وأبدى ندمه على الأمر، وبات يبحث عن إعادة الاندماج في الأنظمة التجارية والمالية الغربية. أقال نميري الوزراء اليساريين من مناصبهم، وقضى على كوادر الحزب الشيوعي السوداني، صاحب التأثير الكبير، ولكن تبقت لديه معضلة واحدة: يفتقر السودان للتبادل الخارجي الذي يمكن عبره تعويض الشركات الأجنبية التي تم تأميمها. إزاء هذه الوضعية، كانت وزارة الخارجية البريطانية حريصةً على إعادة فتح السودان أمام التجارة والتمويل البريطاني. بالرغم من صعوبة الأمر سياسياً في ظل مطالبات التعويض، التي كانت ماثلة. واجه المسؤولون البريطانيون نداءات من الشركات الخاصة، الدبلوماسيين، والحكومة السودانية، لإصدار مساعدات للسودان يمكن استخدامها في دفع فاتورة التعويضات. أحد المحاضر الداخلية لوزارة الخارجية، يرفض هذا المقترح: “من الصعوبة بمكان تصور الظروف التي يمكن لحكومة جلالة الملكة أن تكون راغبة في أن تقرض حكومة أخرى المال، بالتحديد لغرض دفع تعويضات مواطنين بريطانيين تضرروا من تلك الحكومة”. هناك مخاطرة من العواقب الوخيمة، ولكن رغم ذلك فإن هذا التصريح المبدئي القوي، فقد أُعقب في الوثيقة نفسها بشهادة مهمة: “في ظروف محددة، كجزء من صفقة سياسية جديدة مع حكومة بلد برهنت على حرصها لتغيير توجهاتها (أو، بالأصح توجهات سابقتها)، فإنه يمكن أن تكون مستحقة منحها مساعدات مالية، في ذات الوقت الذي ترغب فيه الحكومة الأخرى في تسوية مطالبات تعويضاتها بشروط معقولة”.[6]
وكان الحل أن يتفاوض المسؤولون البريطانيون سراً مع الحكومة السودانية، على أن يعاد فعلياً توجيه جزء من المساعدات الجديدة المقدمة في العام 1973م لتعويض الشركات البريطانية التي تم تأميم أصولها في السودان. مجدداً يثير هذا الأمر تساؤلاً: لماذا لا تعوِّض الدولة البريطانية الشركات البريطانية مباشرة، بدلاً من الترتيب السري لمثل هذا التمويل لتمريره من خلال دفاتر الدولة السودانية؟
أجادل هنا بأن هذا يبرز سلطة المظاهر في التمويل العالمي، فالاقتصاد العالمي ينبني على تقاليد، التي بدورها تستند إلى علاقات قوى متجذرة وراسخة. التقليد الرئيس من ضمن هذه التقاليد، هو أن المدينين دائماً يُسدد لهم. لذلك، حتى عندما يعجز الدائنون عن سداد ديونهم-كما حدث مع السودان في 1973م ومجدداً في 2021م-فإنه يجعلهم يبدون وكأنهم يستطيعون. إذاً، فحقيقة العجز السيادي قد أُخفيت، حتى لا تتحول هذه الحوادث (العرضية) إلى تقاليد جديدة في ممارسات الاقتصاد السياسي الدولي
في 2021م، هذا هو انتصار مبادرة الـ(هيبيك)، في عالم المظاهر المريب، التقاليد والنفوذ التي يستند إليها الاقتصاد العالمي: جدولة الديون والتكيف الهيكلي، يتفاوض حولها بين المدينين السياديين والدائنين، على أسس العلاقات السياسية وتقديرات القدرة على السداد، وقد تحولت إلى إعفاء الديون الممنوحة كعمل خيري بواسطة الدائنين ذوي النوايا الحسنة
ما وراء المظاهر
ولكن هذه ليست مجرد مسألة مظهر، وممارسة السلطة بواسطة التمويل الدولي يمكن القول إنها أشد ضررًا في 2021م مقارنة مع 1973م. حقيقة أن التعويضات البريطانية دُفعت لأجل شركاتها التي تنكرت في هيئة مساعدات رؤوس أموال للسودان، كانت بصورة كبيرة لأجل المظاهر، حتى يمكن المحافظة على هيئة الأرثوذكسية المالية.[7]
في العام 2021م أكثر من مجرد المظاهر على المحك، ادعاء الدائنين بالأرثوذكسية المالية يتطلب أدواراً للمشاركة من حكومة السودان المالية لصون الادعاء، حتى يصل إلى نقطة اتخاذ القرار في الـ(هيبيك)، كان يتعين على السودان أن يحقق رقماً قياسياً خلال 6 أشهر من الأداء المقنع في برنامج مراقب من قبل موظفي صندوق النقد الدولي. تضمن ذلك خصخصة أصول الدولة، رفع الدعم، وانكماش مالي حاد-نفس السياسات التي كانت سبباً للانتفاضة الشعبية ضد عمر البشير. المسار نحو الإعفاء الحقيقي سيأتي بمطالبات مماثلة من العقاب الذاتي (يسمى إصلاح) في الاقتصاد السوداني. ويتعين على السودان أن يقرر إذا ما كان الانهيار الاقتصادي ثمناً يستحق دفعه مقابل التخفيف من ديون القيد الدفتري
الخيار الوحيد أمام السودان هو إعادة صياغة سياسته في مسألة ديونه، واستخدام لغة وتقاليد مختلفة، تمكنه من تحدى دائنيه
الهوامش
[1] ألغت الولايات المتحدة الأمريكية وضعية السودان كدولة راعية للإرهاب في ديسمبر 2021م، في أثناء الانتقال السياسي في السودان، في مقابل إيفاء السودان لـ 335 مليون دولار لتعويضات “ضحايا الإرهاب الأمريكيين”
[2] وتشمل هذه الأرثوذكسية تحرير رأس المال والحسابات التجارية. تعويم سعر الصرف؛ الخصخصة ورفع الدعم؛ والانكماش المالي
[3] أهم دائني السودان من نادي باريس (الغربيين، والرسميين) هم فرنسا والنمسا والولايات المتحدة وبلجيكا وإيطاليا
[4] يستند هذا القسم إلى بحثي الأخير قيد الإعداد للنشر
[5] كما تم تأميم الشركات الأجنبية الأخرى. ومع ذلك، شكلت الشركات البريطانية غالبية الشركات المملوكة للأجانب في السودان، وهو إرث من الحكم البريطاني في السودان الذي استمر حتى عام 1956م
[6] وزارة الخارجية والكومنولث البريطانية، محضر الاجتماع الداخلي (يناير 1971م). الأرشيف الوطني. وزارة الخارجية والكومنولث 39/706
[7] لا يعني هذا إنكار الآثار الضارة العديدة في هذه الفترة لعلاقة القوة التي تأسست أولاً بواسطة الحكم الاستعماري البريطاني في السودان، ومن ثم عبر موقع البلدين كمصدر ومستورد لرأس المال في الاقتصاد العالمي
المصدر: https://africanarguments.org/2021/07/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%B5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A-%D9%85%D8%A7-%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D8%B8/