فور الإعلان عن الانقلاب العسكري على الحكومة الانتقالية في السودان والذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، صبيحة 25 أكتوبر الماضي، خرج السودانيون للشوارع في مواكب هادرة معلنة رفضها القاطع للخطوة التي اعتبرتها قطعاً للطريق نحو الحكومة المدنية التي تؤسس لدولة الحرية والسلام والعدالة.
الخرطوم: أمل محمد الحسن
بسالة شباب وشابات الثورة الذين استقبلوا الرصاص والعنف المفرط الذي واجهتهم به الاجهزة الأمنية لم تتراجع طول سنوات الثورة الثلاث.
وجابه الرافضين لانقلاب 25 أكتوبر العنف بذات السلمية التي خبروها، هتافا مقابل الرصاص.
ارتقى منذ وقوع الانقلاب العسكري 43 شهيداً بينهم إبن حي العباسية العريق بأمدرمان محمد أبوزيد، والذي يبلغ من العمر 25 عاماً.
الشلل الذي أصيب به ” أبوزيد” منذ طفولته لم يمنعه من الخروج في المواكب الرافضة للانقلاب العسكري، حيث خرج يوم 25 أكتوبر، ثم خرج مجدداً يوم 30 أكتوبر ليرتقي شهيداً في شارع الموردة بأمدرمان.
إعاقة ويتم
توفيت والدة الشهيد تاركة آخر أبنائها تؤاما وهما (محمد وأحمد) إلى جانب ابن بكر وبنتين، تولت عنايتهم جميعا جدتهم من ناحية أمهم.
لكن السنوات لم تمهل الجدة حتى تكمل مشوار تربية أحفادها، فاستلمت (أمانة) تربية الأيتام بعدها ابنة أخرى تعمل موظفة بوزارة التربية والتعليم.
“تربوا جميعا في منزل الأسرة الكبير بالعباسية” هذا ما قالته خالة الشهيد نبيهة لـ (التغيير)، وبعد زواج الابن البكر والبنتين لم يتبق سوى التوأم في منزل الأسرة الكبير.
أصيب الشهيد في صغره بمرض السحائي الشتوي الذي سبب له إعاقة حركية لكن بعد الكثير من جلسات العلاج والدلك تحسنت حالته.
ومع ذلك التحسن استمر يعاني من بطء الحركة وعدم القدرة على الركض السريع.
فرح الراتب الأول
الإعاقة لم تمنع شهيد العباسية من المثابرة في التعليم والعمل، وبعد تخرجه من أحد معاهد التدريب المهني كان أول وظيفة دائمة يحصل عليها في مصانع اميفارما للأدوية قبل شهرين فقط من استشهاده.
“اشترى كافة مستلزمات المنزل ولم ينس أن يفرح اخواته براتبه الأول فاشترى المواد التموينية، الزيت والسكر والشاي”.
هذا ما أخبرتنا به الخالة “نبيهة” وسط دموع متفجرة، وواصلت حديثها: “كان جياب، حتى العزاء كنا نشرب من الشاي الذي اشتراه”.
رصاصة في الرأس
رصاصة استهدفت الرأس، استقرت فوق الحاجب مباشرة كتبت نهاية رحلة اليتيم صاحب الإعاقة ورسمت الحسرة في حياة الأسرة التي كانت تحمل محبة خاصة للشهيد.
“كان بساماً ولم يشتكي منه أحد مطلقاً”، هكذا يصفه أهله، والذين أكدوا انه كان الأقرب إلى خاله من بين أفراد أسرته مجسداً مقولة “الخال والد”.
كان الشهيد وخاله اصدقاء دائمي الحديث والضحك، وبعد خبر استشهاده في مواكب 30 أكتوبر خيم الحزن عليه.
لتبدأ الحياة في الانزواء داخله وابت روحه إلا أن تلتحق بحبيبها، فانتقل إلى رحمة مولاه لتتوشح حياة الأسرة بالسواد وسط أحزان متوالدة.
الناعي عجز عن الحديث
كان الجزء الأصعب هو توصيل الخبر للأسرة المحبة لإبنها، عرف الجيران الخبر الحزين من خارج البلاد قبل الأهل، وذلك عبر وسائط التواصل الاجتماعي من العاصمة القطرية الدوحة.
اخبروا جيران الأسرة والذين بدورهم لم يتمكنوا من البوح لأهله، وتساءلوا كيف له أن ينقلوا خبر موت ضحكة المنزل.
“كنت انظر في محطة عابدين بشارع الأربعين، وشيء في صدري يجعلني اتفحص في الوجوه بحثاً عن أبناء الأسرة”، هكذا حس قلب الخالة “نبيهة”.
تجرأ أحد الأصدقاء وقال لهم إن الشهيد أصيب، وهو كان اقصى ما استطاع قوله، ولم يتمكن من إخبارهم بالحقيقة كاملة.
الأخ التوأم مع الأصدقاء ذهبوا إلى مستشفى امدرمان التي نُقل إليها الثوار جثمان الشهيد “أبو زيد” بعد محاولة إسعافه بمستشفى الاربعين.
الصبر الغائب
التوأم أحمد، الذي شارك الشهيد الحياة في رحم الأم لم يتمكن من رؤيته وهو يغادره ليسجل تاريخا مختلفا للغياب، بعد أن تشاركا لحظة وساعة الميلاد.
“الأخوات لم يصبروا” الخالة “نبيهة” التي لم تتمكن من الصبر وهي تحكي فانفجرت بالبكاء، حتى تدخلت الصديقات من حولها لتصبيرها والدعاء له بالقبول شهيد بين يدي الرحيم الذي لم يتركه وهو طفل صغير بعد رحيل والدته، فكيف يتركه وهو مغدور من بني وطنه.
يبدو أن الصبر فارق الجميع، الهزال المتزايد اصاب التؤام، والحزن رسم ملامحه في وجه الأهل، وانتقل الخال المحب بعده.
هذا هو المشهد في منزل الأسرة بالعباسية، فهل يزورهم الفرح بتحقيق حلم الدولة المدنية؟.