أخباركلمة التغيير

في الذكرى الثالثة لثورة ديسمبر.. السودان في مواجهة انقلاب جديد

افتتاحية صحيفة التغيير الإلكترونية

صادف يوم 19 ديسمبر الذكرى السنوية الثالثة للثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الدكتاتور الأطول حكما في السودان عمر البشير، وكان المأمول في مثل هذا اليوم أن يخرج السودانيون محتفلين ومطالبين لحكومتهم الانتقالية بتجويد وتسريع عملها في إنجاز المهام التأسيسية للتحول الديمقراطي في ملفات تحقيق السلام و العدالة الانتقالية وإصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية وإعادة بناء المنظومة العدلية والإصلاح المؤسسي للخدمة المدنية وفرض ولاية وزارة المالية على عائدات منظومة الصناعات الدفاعية التي تقدر بمليارات الدولارات سنويا وهي الخطوة التي بدونها يستحيل فك الاختناق في الحياة الاقتصادية ، وتشكيل المفوضيات المستقلة المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية وعلى رأسها مفوضيات الدستور والانتخابات ومكافحة الفساد والاصلاح القانوني.
ولكن الانقلاب العسكري في 25 اكتوبر 2021 ، أعاد الفترة الانتقالية في السودان إلى نقطة الصفر وعودة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وتوقيعة لاتفاق إطاري مع البرهان في 21 نوفمبر 2021 لم تغير شيئا ! ولم يعد السؤال المحوري هو كيف نكمل مهام الفترة الانتقالية بل أصبح الشعب السوداني أمام تحدي هزيمة الانقلاب، وانتزاع مسار الانتقال المدني الديمقراطي، ومن ثم تأسيس فترة انتقالية جديدة لإنقاذ البلاد من دكتاتورية عسكرية مشروعها السياسي هو احتكار السلطة بشكل مطلق، وعرقلة أي إصلاحات في اتجاه دولة الشفافية وسيادة حكم القانون والقضاء المستقل والقوات المسلحة المهنية والملتزمة باحترام الدستور، ووسيلتها لهذا المشروع الانقلابي هي الخداع والاحتيال بتصنيع واجهات سياسية مدنية مدفوعة الاجر وطبخ عملية انتخابية زائفة ومتعجلة نتيجتها المحسومة سلفا تفويض الانقلابيين بقيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) لحكم البلاد وقطع الطريق على أي تغيير جوهري في معادلة السلطة والثروة في السودان.
خطورة هذا المشروع الانقلابي لا تنحصر في وأد الديمقراطية، بل تضيف الى كارثة وأد الديمقراطية مصيبة نسف الاستقرار والانحدار إلى الحرب الأهلية بسبب أن المكون العسكري نفسه ليس موحدا، فهناك جيش ودعم سريع لكل منهما قيادة طامعة في الانفراد بالسلطة، وهناك عناصر التنظيم الإسلامي في الجيش الطامعة هي الأخرى في الانقلاب العسكري، وهناك حركات مسلحة وانتشار كثيف للسلاح بين القبائل في أطراف البلاد.
هذه المعطيات تحتم استبعاد تأسيس السلطة السياسية على شرعية البندقية لأن الدولة السودانية الآن ترزح تحت وطأة بنادق متعددة ومتنافسة، أضف إلى ذلك أن الحكم العسكري سباحة عكس تيار التاريخ، وأن 52 عاما من الدكتاتورية العسكرية في السودان لم تنهض بالبلاد وكانت محصلتها الانهيار الاقتصادي والتخلف التنموي والحروب الأهلية بل فقدان البلاد لحدودها الجغرافية وتقلص مساحتها بانفصال الجنوب عام 2011.
إن اجتياز التحدي التاريخي الذي يحاصر السودان الآن ممثلا في استعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي يتطلب العمل في جبهتين، الأولى توحيد وتقوية الاصطفاف المدني الديمقراطي لهزيمة المشروع الانقلابي، وهذا الاصطفاف قوامه التنظيمات والتحالفات السياسية الموجودة في الساحة بالفعل، والنجاح في ذلك يتطلب مراجعة نقدية صارمة لأداء تحالف “الحرية والتغيير” في العامين السابقين من عمر الفترة الانتقالية، وعلى أساس هذه المراجعة تتم اصلاحات حقيقية للتحالف وبلورة رؤية جديدة لتوسيعه.
الجبهة الثانية هي بناء تيار فكري وسياسي يمثل بالأصالة القوى ذات التوجهات الثورية الجذرية، على أن يمتلك هذا التيار منصاته السياسية والإعلامية وآلياته النضالية وكيانه المؤسسي المستقل، وينتج قياداته القادرة على ترجيح كفة “مشروع الإصلاح الهيكلي للدولة السودانية في اتجاه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام الشامل والتنمية المتوازنة”، وقد أثبتت الانتكاسات المتوالية للثورات السودانية الحاجة لمثل هذا المشروع الوطني المختلف نوعيا عن النادي السياسي التقليدي، ولكن هذا المشروع هو الآن قيد التشكل، والفئات الاجتماعية المنحازة له ما زالت متفرقة وموزعة على كيانات فكرية وسياسية ونقابية متباينة، لذلك إلى أن يكتمل وينضج لا بد أن تكون عناصره المختلفة في هذه اللحظات التاريخية الفارقة جزء لا يتجزأ من الاصطفاف المدني الديمقراطي لهزيمة الانقلاب واسترداد مسار الانتقال المدني الديمقراطي عبر خارطة طريق واضحة المعالم.
إن الحشود المهيبة للشعب السوداني التي وصلت حتى القصر الجمهوري نهار 19 ديسمبر، والوقفة الباسلة ضد هذا الانقلاب وتقديم التضحيات العظيمة (46 شهيدا وشهيدة ومئات الجرحى) تستوجب من الطبقة السياسية بكل أطيافها انتاج عملية سياسية تأسيسية للفترة الانتقالية بصورة ترقى لمستوى هذه التضحيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى