الرهان الخاطئ والمغالطات المنطقية…
مهدي رابح
الخطورة الكبيرة التي يمثلها تلويح د. عبد الله حمدوك باستقالته من منصبه (كرئيس وزراء في طاقم حكومة تديرها عملياً طغمة عسكرية فرضت نفسها بقوة السلاح عقب قيامها بانقلاب عسكري) هو الإرباك الكبير الذي تسببت فيه وزيادة الضبابية والالتباس للمشهد السياسي المعقد أصلاً، وهو ما تدل عليه عديد المؤشرات التي تؤكد أن هنالك تشظياً عميقاً بين صفوف الكتلة العريضة التي التزمت منذ فجر الخامس والعشرين من اكتوبر بمناهضة الانقلاب، وانقسامها بين مجموعة تبارك هذه الاستقالة وترى فيها طياً لصفحة من انسداد الأفق والقصور في القيادة والعجز في مخاطبة القضايا الحقيقية والتردد وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، ومجموعة أخرى رافضة تترجّاه ألّا يُقِدم على هذه الخطوة رفقاً بمستقبل السودان واستقراره وخوفاً من تمدّد نفوذ العسكريين وحلفائهم على مفاصل السلطة ومصادر الثروة، أي تحوّل الرهان الدائم بقدرة قادر، من الرهان على عزيمة الشعب السوداني لفرض إرادته وتحقيق التغيير المنشود عبر وسائل المقاومة السلمية إلى الرهان بدلاً عن ذلك على استمرار فرد في منصبه ضمن منظومة حكم انقلابي تديره عقلية إجرامية أقرب إلى تنظيمات الكوزا نوسترا Cosa Nostra وهي كلمة إيطالية تعني حرفياً Our Thing أو بالدّارجي “الشي دا حقّنا” وفي هذه الحال فإن هذا “الشئ” هو وطن كامل شاسع يقطن فيه بجانب بضعة عشرات من الجنرالات وسماسرة السلطة، خمسة وأربعين مليون مواطن سوداني.
لذا وانطلاقاً من هذه الحقيقة- أي انقسام الشارع حول هذه القضية- أرى أن من الأهمية بمكان تفكيك بنية بعض أهم الحجج التي يستند عليها الذين يربطون بين استمرار حمدوك في منصبه ومستقبل السودان واستقراره كمحصلة نهائية إلى عناصرها الأولية لتوضيح بعضاً من المغالطات المنطقية التي تحتويها.
والمغالطات المنطقية هي بكل بساطة عملية استخدام معطيات إما صحيحة أو شائعة رغم عدم ثبوت صحتها وإغفال أخرى عمداً لبناء حجة مصطنعة تمكِّن مستخدمها من الوصول إلى محصلة محددة سلفاً، وهو مأزق يقع فيه العقل البشري بكثرة لأسباب عدة أهمها بنية العقل التلقيني والرغائبي أو الكسل بكل بساطة.
الحجة الأولى هي (حمدوك هو ضمان الاستقرار)
المعطى الحقيقي في الحجة التي تربط بين وجود حمدوك واستقرار السودان هي الانحسار النسبي- أي انخفاض معدل الضحايا- لعنف القوات الانقلابية تجاه المحتجين السلميين بعد إعادة تعيينه من قبل البرهان، لكن الإشكال الأساسي في بناء هذه الحجة يكمن في أنها أغفلت معطيات أخرى أكثر أهمية واستدامة؛ أولها أن الاستقرار المؤقت الحالي مرتبط بجوهر اتفاق الواحد والعشرين من نوفمبر بين حمدوك وبرهان والمؤسَّس صراحة على الاعتراف بقرارات البرهان الانقلابية ومسبباتها (الأزمة السياسية المفتعلة) والهادف إلى التقليل من مستوى القمع واطلاق سراح بعض المعتقلين مقابل تثبيت أركان نظام حكم ديكتاتوري جديد ذو واجهة مدنية تمهيداً لإقامة انتخابات متعجلة بإشراف الطغمة العسكرية وأجهزتها المخابراتية والأمنية معروفة النتائج مسبقاً، ستفتح الباب أمام حقبة جديدة طويلة من الاستبداد والفساد والعنف وعدم الاستقرار (*راجع أخبار النشاط المحموم لمفوضية انتخابات نظام الإنقاذ هذه الأيام)، والمعطى الثاني والأهم في عملية ضمان الاستقرار هو توحيد وإصلاح المنظومات الأمنية والعسكرية وولاية الدولة على مؤسساتها الاقتصادية وفرض الرقابة على أنشطتها التجارية، وهو واجب خارج عن سلطة حمدوك تماماً وهي قضية لم تذكر في أي من تصريحاته وبياناته رغم أنها القضية المركزية دون منازع في الأزمة الحالية وإحدى دوافع الانقلاب الأساسية والمهدد الرئيسي لاستقرار السودان وأمن ورفاه مواطناته ومواطنيه، وهو ما يحيلنا إلى محصلة أن وجود حمدوك في منصبه لن يغير من حقيقة أن استقرار السودان سيظل على المحك ما دامت طغمة الجنرالات الحالية وشبكات المصالح الداعمة لها في السلطة.
الحجة الثانية هي (حمدوك وفر مساحة حرية للحراك المدني)
وهي من أضعف الحجج المطروحة لأن الحقائق كلها تدل على أن الحراك الجماهيري السلمي المقاوم على كل الجبهات دُشِّن منذ صبيحة الانقلاب واستمر بكل عنفوانه رغم آلة القمع والقتل وإغلاق شبكات الاتصال حتى مساء الواحد والعشرين من نوفمبر، موعد التوقيع على الاتفاق، وأن المساحة التي وفرها الاتفاق لم تؤثر سلباً أو إيجاباً بعد ذلك ولم تؤدِ إلى إيجاد أي مخرج للأزمة لأن الخطيئة الأولى لحمدوك والتي يتغافل عنها العديدون هو القبول عملياً بالانقلاب وتجاوز جريمة الخيانة العظمى لمن قاموا بالتمهيد له وتدبيره وتنفيذه بل محاولة إيجاد أعذار بتحميل الضحية، أي الحرية والتغيير، ذنب الجلاد، أي مجموعة المجلس العسكري، وتكرار خطاب الانقلابيين التبريري الذي يرجع سبب الانقلاب إلى أزمة سياسية متخيلة، بل أن أحد محفزات الانقلاب في حقيقة الأمر كان هذا التردد المزمن في اتخاذ القرار وفي الانحياز لصف التغيير وغض الطرف والسكوت عن المؤامرات التي ظلت تحاك لأشهر عديدة على مرأى ومسمع منه داخل أروقة مكتبه لقطع الطريق أمام التحول المدني الديموقراطي.
إن مساحة الحرية الحالية ليست منّة من أحد أو نتيجة لاتفاق ما بل هي مساحة نحتت في الصخر بأظافر دامية عبر عقود من النضال والتضحيات وانتزعت انتزاعاً ولن يغير استمرار حمدوك في منصبه أو عدمه من هذا الواقع.
الحجة الثالثة (وجود حمدوك يسمح بالسيطرة على مفاصل الدولة وبالتالي إنجاح الانتقال)
استندت هذه الحجة أيضاً على معطيات حقيقية وأغفلت أخرى أكثر أهمية. المعطيات الحقيقية تتمثل في اتخاذه قرارات بفصل بعضاً من كبار الموظفين الذين نصّبهم البرهان بعيد الانقلاب وتعيين أو إعادة تعيين موظفين قام باختيارهم هو، ولا يتعدى عددهم حسب المعلومات المتاحة وبعد شهر كامل من تعيينه رئيساً للوزراء، أصابع اليد الواحدة، بين مدير لقناة التلفزيون القومية ونائب لمدير البنك المركزي وآخرين.
وأهم المعطيات التي أغفلت في بناء الحجة هي أن النظام الانقلابي وأجهزته الأمنية وشبكات الفساد المرتبطة به وعبر استمرارها في العمل خارج مظلة الرقابة الشعبية وسيطرة أجهزة الدولة المدنية والعدلية، وبما تمتلكه من موارد غير محدودة وأدوات الترهيب والقمع والجرأة على شراء الولاءات والابتزاز، فإنها هي من تمتلك النفوذ الفعلي في تحديد سياسات الدولة والقدرة على انتهاك القوانين متى وكيفما شاءت دون مساءلة، ولن يغير إبدال بعض الموظفين من هذا الواقع بل هو إجراء شكلي أقرب لوضع الضمادة على الجرح المتقيّح.
إن القضية الأساسية اليوم تظل استمرار رفض التيار الغالب للسودانيين المبدئي والمقاطع، للاستبداد والظلم بكافة تجلياته وهو ما يُحتم علينا الرهان فقط على إرادة الجماهير وقواه الحية والسعي بكل الوسائل السلمية لإسقاط نظام انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر العسكري وكل القرارات والإجراءات التي تأسّست أو ستؤسّس عليه مستقبلاً، بما فيها اتفاق الواحد والعشرين من نوفمبر، والهادف إلى اضفاء شرعية شكلية عليه وتثبيت أركان نظام حكم ديكتاتوري جديد سيضيق الخناق على بلادنا لعقود قادمات، يعيث فيها قمعاً وفساداً ويحول بيننا وتحقيق حلم التحول المدني الديموقراطي وبناء الوطن المنشود، وطن الحرية والسلام والعدالة.