أخبارأعمدة ومقالات

في ذكرى رحيل الفنان محمود عبد العزيز «الفات زمان»

بقلم: محمد يونس

محمد يونس

الفات زمان

………………
• كان جميلا..
• رائعا..
• رفيعا..
• مدهشا حد السحر..
• وساحرا لدرجة الدهشة..
• وهو الأمر الذي جعل الأرض عاجزة عن حمله، فخبأته داخلها.
• وعندها تساءل المشفقون: هل سكت الرباب؟
• ولكن حدثت المفاجأة، ولم يسكت الرباب، بل تضاعفت شهرته، وإرتفع مقامه، وسمت مكانته!
• فبعد أن كان جسده يحتل بعض المكان؛ أصبحت روحه تسيطر على كل المكان.. هكذا هم العظماء..
• وبالتالي فقد أصبح يستحق أن يوصف بالأسطورة.
• وفي نادي الأساطير، فقد رحب نيوتن ملك الجاذبية الأرضية؛ بملك الجاذبية البشرية، الذي كان يجذب إليه كل من يستمع له ويشاهده.
• كيف لايكون أسطورة وظهوره كان ظاهرة ورحيله يعتبر حدث تاريخي؟

قصة الرحيل

* رغم أن رحيلك قد مضى عليه تسع سنوات إلا أن الحديث عن أسطورتك يتجدد كل يوم!!
* فالذي رحل هو جسدك فقط، وبقى نغم صوتك الساحر، وروحك المتواضعة، وصورتك الأنيقة، التي لم تغب عن مخيلتنا ولو لساعة!!
* فلا يكاد يمر يوم لانستمع فيه لصوتك، أو نرى صورتك معلقة على جدران المحلات والمركبات العامة والصحف!!
*وهو مايعني أن سماع صوتك أو رؤية صورتك في الشارع العام أو إحدى القنوات أو الإذاعات يوميا لايمثل حدثا، إنما الحدث يتمثل في غياب صورتك، أو عدم سماع صوتك في يوم ما!!
*وقد بات من شبه المستحيل في السودان أن يمر يوم دون أن نستمع فيه لصوتك الساحر، أو نرى صورتك، وفي هذا المرور اليومي يتساوى من يحبك ومن لايحبك!!
* الوضع الطبيعي بعد رحيل أي شخص أن ينساه الناس بمرور الأيام، ولكنك كسرت هذه القاعدة..
* فبدلا من إضمحلال شعبيتك وتراجعها فقد أصبحت تزداد في كل فترة، في ظاهرة مدهشة مثلك أيها الساحر المدهش!!
* عندما ذهب الحواتة لوداعك في المطار كان بعضهم يردد في سره رائعتك: على أي حال إن شاء الله ماآخر وداع..
* ولم يعتقدوا أن هذا هو الوداع الأخير، لأنك عودّتهم على النهوض من جديد، مثل طائر العنقاء، الذي يبدع دوما في النهوض من تحت الرماد.
* وبعد سفرك طلبوا من كل رحلات الغمام التي تمر بمستشفى ابن الهيثم أن تحمل رسائل شوقهم ودعواتهم لك بالشفاء.
* وإنتظروا لحظة عودتك، ليقولوا لك: سلامتك والألم بيزول.. كفارة ليك يازول ياطيب.
* وأرادوا أن يفرشوا الأرض لك بالورود، من المطار وحتى المزاد، إحتفالا بشفائك وعودتك..
* ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يفترشوا الأرض حزنا على رحيلك، بعد أن إختارك لجواره الكريم.
* وفاتك دماغيا صاحبها تدهور في عمل بقية أعضاء جسدك النحيل، ولكن كان قلبك هو العضو الوحيد الذي يعمل بكفاءة!!
* والسبب إنه كان متعلق بالحواتة ولم يهن عليه فراقهم!
* وقد حاول بشتى السبل أن يواصل النبض، ليبقي على أمير القلوب بجانب أحبابه لأطول وقت ممكن.
* حتى جاءت اللحظة الحاسمة، التي توقف فيها عن النبض، في 17/1/2013 ، لتعلن عن رحيل الزول الطيب عن دنيانا، وبقاءه في قلوبنا وعقولنا للأبد.
*ونسأل الله يامحمود أن يكون حبك الخرافي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، شفيعا لك.
* ولتعلم أيها الحوت، ناسك الزمان ماإتغيروا، وعن حبك ماإتحولوا..
* ولكنهم دوما يرددون: الفات زمان.. يازول ياطيب ماشي وين.. تفارق كيف تخلينا؟
* أي نوع من الحب والحزن هذا..؟ فرغم مرور تسع سنوات على فراقك؛ مازال كل حواتي شايل جراح رحيلك حتى الآن!!

أنت المدهش وليست هي

* لقد أدهشتنا يامحمود بعد أن غنيت أغنية يامدهشة!!
* وسبب الدهشة يتمثل في إنك أنت من كنت المدهش، وليست هي..
* فقد كنت مدهشا في صوتك الساحر، الشبيه بمزمار داؤود..
* وكنت مدهشا في غنائك..
* وقد كنت تصطحب كل من يستمع إليك إلى عالم مليء بالدهشة والرائع من الخيال..
* وكنت كذلك مدهشا في مدحك للمصطفى صلى الله عليه وسلم..
* وكنت أكثر إدهاشا في طيبتك وتواضعك.
* فلكل هذه الأسباب، ولغيرها، فقد كنت أنت المدهش الحقيقي ياتمام قمر العشاء، وهي بجانبك ليست سوى نجمة صغيرة جدا.
* دوما أنت المبدع سمع وشوف، فصوتك نغمة في جواي، تزيد إحساسي بالدهشة أحيانا، وبالبهجة أحيانا أخرى، وبالتالي فأنت المبدع الحقيقي.
* ومن غنيت لها: “صوتِك نغمة في جواي”؛ فقد أصبحت مكلفة بكتابة إعتراف رسمي، فحواه أن صوتك هو الأصل، وماسواه تقليد.
* في الأصل لاتوجد مقارنة مابين صوتك المدهش وصوتها، ولكن غناءك لها هو من جلب هذه المقارنة الغير متكافئة..
* وأكاد أجزم أنها تردد مع الحواتة مقولتهم الشهيرة: مابطيق لغيرو أسمع.

حكاية الشفق الحزين

* أولم تروا كيف أضحى الشفق حزينا على فراق الحوت؟!
* ولكن سيزول تعجبكم عندما تعرفوا قصة شفق المغيب مع محمود..
* فقد كان محمود من عشاق الشفق الأحمر، ويذوب عشقا في ألوانه، ودائما مايرتاد القلعة الحمراء، مشجعا، أو مشاركا في إحتفال أحمر، أو متبرعا للشياطين الحُمر..
* وليس مدهشا أن الحوت العظيم يشجع الأحمر العظيم..
* ولكن باب الدهشة الحقيقي يتمثل في منظر القمر، وهو سرحان وحزين على رحيله، رغم علمه أن محمود لايعشقه، ولكنه يعشق الشفق الأحمر والنجوم!!
* ولأنه الجان، ففي حضرته تذوب جميع الألوان، لترسم لوحة أسطورية أكثر قيمة من موناليزا ليوناردو دافنشي، كتب عليها: بنحبك يامحمود!
* وللشفق الحزين قصة أخرى مع الحواتة..
* عندما يكون هنالك حفل لمحمود في المساء فإن الحواتة ينتظرون حلول الليل بصبر جميل، ولهيب الشوق يكاد يقتلهم..
* وفي فترة مابعد العصر، فإنهم يترقبون ظهور الشفق، لأن ظهوره يعني أن النهار قد بدأ ينعس، إستعدادا للنوم ثم الزوال.
* ويعني أيضا أن خيال المساء قد بدأ يتراءى، وبالتالي فإن أماني اللقيا بالحوت المرسومة على عيونهم قد إقتربت من التحقيق.. ولو يزور طيفك خيالي يبقى وعد اللقيا قرّب.
* في مسرح الأحلام، وقبل ظهور نور العيون على ساحة العرض، فإن كل واحد من المعجبين يدندن بالأغنية التي تعبر عن شوقه بلقاء الحوت..
* فمنهم من يردد: عمري بعدو بالساعات عشان خاطر مواعيدك..
* وآخر يقول: شوق العيون وقت مايسوق عليك خطوات..
* عندما يحضر الأشخاص الذين يشبهون السماء تتحول الأجواء إلى أسطورية، ويعِم السحر المكان.. فهذا ماكان يحدث بالفعل حينما يصعد محمود للمسرح!!
* وبعد رحيل محمود، فقد إفتقد الشفق نظرات الحواتة الملهوفة نحوه..
* وكلما تذكر أنه قد إفتقدها للأبد يزداد حزنه، حتى أصبح يسمى الشفق الحزين!!
* وليس مستبعدا أن يصبح حزن الشفق على فراق الحوت ونظرات الحواتة الملهوفة مضربا للأمثال.
*فقد أتعبته الأيام، وسرقت منه أجمل اللحظات!
*وكأنما كان محمود يشعر مسبقا بهذا الحزن، ولذلك صدح بالمقطع الذي يقول: بسأل عليك حزن الشفق.. وقت الخيال ينعس ينوم يتوسد أحلام الأفق.

هل هو جان فعلا؟

* يتساءل الكثيرون عن سر الإرتباط الشديد بين الجان وجمهوره!
* وإزدادت درجات الإندهاش والتعجب لدى هؤلاء عندما شاهدوا الملايين وهم يخرجون لتشييعه!
* وهذا ماجعلهم يتساءلون: هل كان محمود جان بحق وحقيقة ليجعل الشباب يتعلقون به لهذه الدرجة الخرافية؟!
* صوت محمود الأسطوري أضاف إستفهام آخر للتساؤل السابق: هل هذا صوت جان فعلا أم صوت بشر؟!
* هو ليس بجان ولا بساحر، ولايغني معه جان، ولكن الله سبحانه وتعالى منحه صوت نادر وأسطوري يحاكي الآلات الموسيقية، ومنحه تواضع شديد، مصحوب بقدر عالي من الإنسانية.
* الحديث عن تواضعه غريب وعجيب، فمثلا إذا مررت بمجموعة من الناس جالسين على الأرض، ومجتمعين على (صحن فتة)، وقيل لك أن محمود عبدالعزيز واحدا منهم؛ فلا تندهش!!
* أما الحديث عن إنسانيته فيحتاج إلى آلاف الصفحات، لأن ماكان ينفقه على الفقراء والمحتاجين أكثر مما كان ينفقه على نفسه وأهله!
* فمن لم يحب محمود الفنان فقد أحب محمود الإنسان!
* ومعظم محبو محمود ينتمون للطبقة الفقيرة، لمشاركته لهم أتراحهم قبل أفراحهم!
* وبجانب ذلك فإن السواد الأعظم من المحبين لديه معرفة شخصية بمحمود.
* وعليه يمكن أن نقول أن محمود عبدالعزيز هو شمس المزاد التي أشرقت على دنيانا، فأضاءتها، وأضافت لها مسحة مقدرة من الجمال، مما جعلنا نقول لسكان الكواكب الأخرى بكل فخر شوفوا دنيتنا الجميلة.
* فشكرا للمزاد التي أتحفتنا بهذه الفلتة الفنية والإنسانية.
* وبعد الرحيل، تخيلوا أن محمود يقول لكم: كنت أنا محمود وكانت تلك رحلتي معكم، فماذا أنتم فاعلين لي وقد أصبحت بين يدي الله؟!
* فتعالوا جميعا لنقطف زهرة من بستان الزهور الذي تركه لنا، لكي نقدمها له في قبره.
* وهنا لابد من الإشادة بمجموعتي محمود في القلب وأقمار الضواحي، اللتان تقومان بالعديد من أعمال الخير ويهبونها لروح الراحل.

معقول عدت تسعة سنين؟

* رغم مرور تسع سنوات على رحيل الحوت، فمازلت أذكر تفاصيل يوم الرحيل وكأنه حدث بالأمس!!
* عندما شاهدت الملايين يقتحمون المطار عند وصول الجثمان، ويحتلون الشوارع؛ أيقنت أن الإنسان السوداني مازال قادرا على صنع الثورات..
* فقد إحتل الحواتة الخرطوم لساعات، وسط دهشة الأجهزة الأمنية التي إكتفت بالفرجة المصحوبة بالدهشة والتعجب!
* وبالفعل، فقد صدق حدسي، فكانت ثورة سبتمبر 2013، وأعقبتها ثورة ديسمبر 2018.
* مشهد إجتياح الجحافل البشرية لحواجز البشير الأمنية في طريقها نحو القيادة لايشابهه سوى مشهد إحتلال الحواتة للشوارع يوم رحيل الحوت!
* وهنا لابد أن نفتح كتاب التاريخ، لنكتب فيه أن اليوم الذي رحل فيه محمود عبدالعزيز شهد كتابة الأحرف الأولى لشرارة الثورات في الألفية الجديدة.
* حتى يومنا هذا، كلما هطلت أمطار الذكريات فإن جرح الرحيل (يتاور) بين الحين والآخر..
* ومازال هذا الجرح الغائر يرفض أن يندمل، رغم مرور الأيام والشهور والسنوات، لأن الراحل كان أسطورة، والأساطير لايمكن أن تُنسى.
* كل عاشق للجان يرجع بالزمن مرة، ليتذكر حكايته مع محمود، سواء كانت أغنية، أو موقف، فمنهم من يبتسم، ومن يبكي بدموع، أو من دون دموع!
* الفات زمان.. تفارق كيف تخلينا.. مع السلامة.. ساب البلد.. منو القال ليك بنتحمل فراق عينيك.. الودعوا إرتحلوا.. سكت الرباب.. رحل الغمام، يبدو أن محمود كان لديه إحساس داخلي أن عمره ليس بالطويل، ولذلك تغنى كثيرا بالوداع والرحيل!!
* الطيبون لايطيب لهم المقام في الدنيا الفانية، فيرحلون سريعا كالغمام، ولذلك رحل الحوت!!
* أعمال الخير التي كان يقوم بها الراحل لم تُكتشف إلا بعد إنتقاله لجوار ربه، وهو مايدل على إنه من الصالحين، الذين ينفقون بيمينهم ما لا تعلم يسارهم..
* بعد إنتهاء الحفل كان يحمل المال الذي تحصل عليه، ليُطعم به المتشردين في ساعات متأخرة من الليل..
* هم لايأتون إليه، بل هو من يبحث عنهم في الشوارع والأزقة والمجاري و(الخيران)!!
* وهذا مايفسر سر الحب الشديد الذي تكنه له هذه الفئة من المجتمع!
* أعمال الخير التي قام بها محمود وعرفها الناس بعد وفاته ردت عمليا على كل من تحدث عنه بسوء في حياته، ولسان حاله يقول: ظالمني شوف من كم سنة!!
* رغم ظروف الحياة القاسية، ومرور السنوات، فإن مكانة ملك مملكة الحواتة لم تتزحزح قيد أنملة في قلوب الحواتة..
* ودائما مايجدد الحواتة الولاء، معلنين بقاء الحوت في قلوبهم للأبد.
* صحيح أن يوم الرحيل قد أصبح من الماضي، والماضي ولى زمان، إلا أن ماضي الحوت مختلف، لأن يوم رحيله (17/1 ) يحييه الحواتة في كل عام، ويحيون ذكراه في كل يوم، وهو مايعني أن ماضي الحوت باق للأبد، ولم ولن يولي!
* عذرا أيها الماضي، فإن ماضي الحوت مختلف، ولذلك سيبقى!
* وسيذكر التاريخ أن محمود عبدالعزيز قد أعاد الشاب السوداني للفن السوداني مرة أخرى، بعد أن هجره مستمعا للغناء العربي والغربي في فترة التسعينات.
* هنالك أشخاص يشبهون السماء بسبب إمتلاكهم لمميزات نادرة جدا، ومن المؤكد أن محمود أحدهم، فإنسانيته العالية توجته ملكا للإنسانية، وتواضعه الشديد توجه ملكا للتواضع، وصوته الساحر توجه ملكا للغناء، ولذا توجه الحواتة ملكا أبديا لمملكة الحواتة.
* ولكن نرجع نقول: يازول ياطيب ماشي وين.. مالك مستعجل..؟
* كلمة أخيرة: ونبعث لك برسالة مع محمد هاشم مطر، ست النفور، عبدالسلام كشة، هزاع، الوليد، محمد ماجد، الريح محمد، وبقية شهداء الثورة السودانية.. فحواها:
عذراً محمود.. فهذا العام لن نستطيع إحياء ذكراك، لأن البلاد موشحة بالسواد، حزنا على رحيل الشهداء، ولكن سنحييها في قلوبنا وعقولنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى