أخبارأعمدة ومقالات

متى سيسقط الانقلاب؟… «5»

مهدي رابح

متى سيسقط الانقلاب؟… «5»

مهدي رابح

“كيف يمكن إيجاد معالجة لمعضلة الدعم السريع في إطار رؤية تحول مدني ديموقراطي طويلة الأمد تحقق العدالة والسلام وتمنع تدخل كل حاملي السلاح في العملية السياسية والاقتصادية مباشرة أو عن طريق استخدام المال السياسي في المستقبل؟”.

—————————————————————————–

السؤال أعلاه والمطروح في خاتمة المقال السابق من هذه السلسلة صالح أيضاً كفاتحة لهذا المقال لأنه يتناول وبصورة أساسية أحد أهم عناصر المعسكر الانقلابي ألا وهي الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا في اكتوبر 2020م وبصورة أعم العلاقة الإشكالية Problematic بين كل حاملي السلاح، إن كانوا خارج منظومة الجيش الموحد كالمليشيات أو القوات شبه الرسمية أو داخلها كما هو حال الطغمة Junta التي تختطف المؤسسة العسكرية اليوم، مع السلطة والثروة والمجتمع في سياق مشروع التحول نحو دولة ديموقراطية حديثة، دولة المواطنة وسيادة حكم القانون.

في ورقة بحثية رصينة للدكتور مجدي الجزولي خلص إلى أن المعضلة الحقيقية التي وقفت في طريق الحركات المسلحة للتطور إلى ثورات ريف ناجحة كما حدث في تجارب أفريقية أخرى مشابهة كغينيا بيساو ولاحقاً يوغندا وإثيوبيا وإريتريا وتمدّدها في الأرض لتكوين دولة موازية تنافس الدولة المركزية وفي مقدورها أن تصعد من وتيرة صراعها معها حتى تصل إلى نقطة تاريخية محددة تتمكن فيها من دحرها وأن تحل محلها لتنزّل شعاراتها المتمثلة في معالجة مظالم حقيقية لشرائح أساسية من المجتمع تم اقصاؤهم عن الوصول إلى الخدمات الأساسية وإخراجهم من دائرة الإنتاج وحرمانهم من أي فرصة للارتقاء في السلم الاجتماعي إلى برامج تغيير اجتماعي حقيقي وجذري، ترجع – أي أسباب الفشل- في أنها أسست في الأصل سعياً من قبل قلة محدودة من القيادات لمخاطبة تظلمات تاريخية نخبوية تتعلق بقسمة السلطة والثروة في المركز، عبر عنها بصورة صريحة الكتاب الأسود الذي نشر في أواخر التسعينات من القرن الماضي والذي أطلق عليه البعض وصف “سقف طموحات البرجوازية الصغيرة”، مما أضعف من دعمها الشعبي على الأرض ومن إمكانية استيلائها على مساحات مقدرة والاستقرار فيها لإرساء أركان الدولة البديلة وحولتها نتيجة لذلك إلى قوى مقاتلة قلقة غير مستقرة في حاجة دائمة للتنقل وتفتقد المصادر الدائمة للموارد وهو ما جعل كثيراً منها يلجأ إلى النهب وارتكاب انتهاكات في حقوق المواطنين ربما قد يرقى بعضها إلى درجة الجرائم الموجهة ضد الإنسانية وإن كانت لا تقارن بجسامة ما ارتكبته قوات نظام الإنقاذ الزنيم، أو الارتزاق عبر المشاركة في الصراعات المسلحة في دول الجوار بمقابل مادي، جنوب السودان وليبيا كنماذج مما جعل عدداً منها تتحور إلى كيانات قبلية مقاتلة أشبه بالشركات الخاصة المملوكة لأفراد اختزل بعض منهم أهداف ومسار هذه الكيانات لخدمة مصالحهم الخاصة بما يطابق أهواء ذواتهم المتضخمة.

ورغم أن القضايا التي حمل من أجلها الكثير من السودانيين الشرفاء السلاح في وجه الظلم حقيقية ولا جدال حولها، وأن الكثير من الخلصاء ضحوا بأرواحهم في سبيلها إلا أن ذلك لم يمنع السلطة الديكتاتورية من استغلال نشاطاتها ذات الطبيعة الحربية في صالحها لترسيخ دعائم حكمها العضوض عبر استخدامها كمبررات منطقية لتبني إجراءات قمعية أكثر عنفاً تجاه الحراك المدني السلمي المقاوم ومصدراً لتراكم ثروات بعض عناصره الذين يسيطرون على بنود الصرف الأمني الاستثنائي بعيداً عن أي رقابة ممكنة وهو ما جعل من التقارير الحاشدة بالبطولات الكاذبة والمرفوعة من أحد آخر حكام الإنقاذ في دارفور، والمعروف بالاحتيال والكذب المرضي مادة للفكاهة والتندر في مجالس المدن الدارفورية حتى يومنا هذا.

هذه المقدمة التاريخية الطويلة ضرورية جداً لفهم التوتر الذي حدث بين قيادات هذه الحركات وقيادات ثورة ديسمبر المدنية عقب نجاح الهبة الشعبية غير المسبوقة عبر وسائلها السلمية فيما لم تستطع إنجازه عقود من النضال المسلح، والذي تحول لدى البعض إلى ما يشبه حالة من الذهان Psychosis، وضروري أيضاً لفهم أسباب عزلة بعض هذه القيادات عن شريحة واسعة مم عضويتها من الشباب المستنير الذين ظلوا يحرسون مع رفاقهم الثوار (المكونات) المتاريس ويتقدمون الصفوف في التظاهرات السلمية بينما القوات التي تتبع لنفس الحركة تقف في الضفة الأخرى موجهة بنادقها نحوهم، في تناقص سريالي فريد فرادة تعقيدات المشهد السياسي الحالي.

والأهم في تقديري أن هذا التحليل يوضح بجلاء الأسباب التي دفعت بعض الموقعين لسلام جوبا، ورغم شمولية الاتفاق ومخاطبة نصوصه لجذور الأزمة والقضايا الوطنية المؤسِّسة من اختيار الطريق السهل المختصر لتحقيق الأهداف النخبوية لقياداتها بالتحالف مع الطغمة العسكرية أو شبه العسكرية  (جيش أو دعم سريع) والمشاركة في الإعداد وتنفيذ الانقلاب بدلاً من الطريق الشائك الطويل للتحول المدني الديموقراطي الذي يخاطب قضايا المهمشين أصحاب المصلحة، ويفسر توجسها من الخروج المرجّح من السلطة عقب الانتخابات الأولى ورغبتها بدلاً عن ذلك في التأسيس لنظام استبدادي يمكنهم من فرض نفوذهم على الجميع بالحديد والنار بدلاً من الترويج لبرامج انتخابية قد لا تجد آذاناً صاغية وبالتالي أصواتاً تحفظ الحد الأدنى من ماء وجهها أو ربما مبررات وجودها في صناديق الاقتراع.

لكن وفي المقابل نجد أنه وفي داخل هذه القوى هنالك تيار واسع يمتلك الشجاعة والنزاهة الكافية لدعم الحراك الجماهيري وعلى استعداد لبذل كل ما يلزم لتحويل هذه الحركات المسلحة إلى كيانات مدنية باستطاعتها تبنّي الوسائل السلمية للمنافسة حسب قواعد اللعبة الديموقراطية للوصول إلى السلطة لإنفاذ التغيير المنشود في إطار الدولة الديموقراطية الحديثة، والذي تجلى تأثيره- أي هذا التيار- عقب مؤتمر الجبهة الثورية الأخير في الدمازين حيث استطاع فرض رؤيته وتغيير موقف الجبهة الثورية نسبياً إلى رافض للانقلاب بتسميته “استيلاءً على السلطة بالقوة” ثم الوصول به إلى منطقة وسطى معزولة نسبياً عن التفاعلات المباشرة للصراع في المركز ومستعصم بإتفاق جوبا الذي لا أساس قانوني له By defenition دون إطار دستوري جديد يحل محل الوثيقة الدستورية مبني على عين أسس الانتقال الديموقراطي، وهو ما يعني أن الموقف داخل الجبهة الثورية ايضاً دينامي غير ثابت، واعتماداً على تطور الأحداث فإنه من المرجح أن يصل في لحظة ما في المستقبل القريب إلى الدعم الكامل لعملية الدمقرطة وتمدين الدولة من جديد، لكن وعلى أية حال فإن التجربة المريرة طوال الستة أشهر السابقة وما شهدته من قمع وفساد وتمكين اقتصادي لبعض هذه الحركات ستفرض على الجميع الوصول إلى توافق حول قوانين ولوائح تضبط العلاقة بين حاملي السلاح بصفة عامة والسلطة السياسية والنشاطات الاقتصادية وتدفعها لدمج قواتها في الجيش الموحد والرضوخ لقواعد المنافسة السلمية الشريفة في إطار عملية سياسية متوازنة ومعافاة في المستقبل الذي يرونه بعيداً ونراه قريباً.

يتبع….

متى سيسقط الانقلاب «4»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى