الرأي اليوم
تنقية الحياة العامة من الفساد
صلاح جلال
(1)
* تعد الأمانة والصدق من الصفات التي لا تستقيم الحياة دونها، حضت عليها كل الأديان والقيم الوضعية، لقد استطالت شمولية الإنقاذ إلى ثلاثة عقود حُسوم خلالها كان المال السياسي هو الفاعل الرئيسي فى الحياة العامة حتى تأسس فقه (الكاش يقلل النقاش)، لقد سمعت من حكاوي الرشاوي والفساد ما يكفي لكتابة مجلدات من أشخاص تسلّموا المال الحرام أو تم تحت ناظريهم (كشكش تكسب).
(2)
* لقد سادت خصلتان في عهد الإنقاذ؛ الرشوة السياسية والتآمر في إدارة شؤون الدولة حتى بين أعضاء الحزب الواحد، لقد استمعت للفريق أول حميدتي في الجنينة وهو يتهم بعض السياسيين بتلقي المظاريف من الخارج وهو اتهام خطير وجريمة خيانة عظمى كاملة الأركان من موقع نائب رئيس المجلس السيادي الفريق حميدتي وهو ابن بيئة الشمولية وأحد منتجاتها، وكذلك الفريق أول البرهان تدرّجوا في سلم الوظيفة والمسؤولية في دولة رئيسها البشير كان يتلقى رشوة من رئيس دولة أخرى، وكأنها معاملة اعتيادية خارج النُظم المحاسبية، بالضرورة هذه الثقافة سادت في زمن الإنقاذ، منتج لغياب الشفافية والإعلام الحر والمساءلة وسيادة حكم القانون على رأس الجميع، لذلك بعد سقوط الإنقاذ استسهل كثيرٌ من الفاعلين والنشطاء السياسيين توزيع الاتهامات خاصةً من الخارج لشراء ذمم عامة بالمال الحرام.
(3)
* ومن متابعتي لسخاء توزيع الاتهامات التي ترقى لمستوى الخيانة العظمى، والتي تستحق الشنق في ميدان عام، خلال الثلاثة أعوام الماضية عبر كل الوسائط والمستويات والمواقع، مصدر الغرابة لم يتقدّم شخص واحد بشكوى للمحاكم من طرفي الإتهام المدعي والمدعى ضده كأنها قضية سجال سياسي عادي في الحياة العامة اليومية، وهي في الحقيقة اتهام بجريمة عظمى، يجب عدم مرورها مرور الكرام وسط المكاره، يجب وضع حد أمام هذا التساهل بتوزيع الاتهامات، إما المحكمة والإثبات مع التجريم أو مواجهة السجن والغرامة بقوة القانون لمن يطلقون الاتهامات جزافاً.
(4)
* أعتقد من واجبنا لتنقية الحياة العامة من ثقافة الشمولية القائمة على الرشي وخيانة الأمانة، خاصةً للمشتغلين في الحياة العامة، لقد أمضيت حوالي الأربعين عاماً في الحياة العامة لم أرتشِ فيها ولم أرشِ أحداً ولم تحدثني نفسي بخيانة أمانة، عملت داخل الوطن وخارجه مع أجهزة ودول وما زلت أعتز بفقري، يُسيئنى جداً أن توزع هذه الاتهامات المجانية دون مساءلة، يجب علينا جميعاً كمشتغلين في الحقل العام أن نكون أكثر حساسيةً واستجابةً لكل من يتهم شخصاً أو أشخاصاً بالرشوة أو خيانة الأمانة، يجب أن يقوم المدعي العام دون بلاغ بالتحري مع من يرسل هذا النوع من الاتهامات، إما أن يقدّم كل ما لديه من أسماء وأدلة ويحاكم المتهومين أو يعاقب بالكذب الضار بالحياة العامة، ويفعل ضده قانون إشانة السمعة والحكم بالسجن والغرامة والتعويض.
(5)
* النظام الديمقراطي يقوم على سيادة حكم القانون والشفافية وحق المجتمع في معرفة الحقائق، يجب عدم ترك الحبل على الغارب لكل من يتحدّث في الحياة العامة من أي موقع إذا كان فرداً عادياً أو حاكماً أو حزباً أن يقدّم للنيابة العامة لتقديم أدلة إثبات للاتهامات التي يطلقها، وإذا كان حزب سياسي قدّم اتهاماً باطلاً لقوى سياسية أخرى دون دليل يُحرم من شرعية الممارسة الديمقراطية لبعض الوقت من عام إلى خمسة، حتى ننقي الحياة العامة بصرامة من ثقافة الشمولية، أطالب بتأسيس نيابة إبراء الذمة Integerity Court ذات الإجراءات والأحكام السريعة، حتى تستعيد الحياة العامة مصداقيتها وثقة الجماهير فيها وفي قياداتها وينتهي حديث الاتهامات المجانية بسيف العدالة البتار وهذه ميزة الممارسة الديمقراطية التي تعمل تحت الأنوار الكاشفة النافية للرشوة والخيانة في العمل السياسي.
(6)
** ختامة
لقد كان الآباء المؤسسون مثال Model للنزاهة والعِزة والإباء محصّنين من رشاوي الداخل والخارج، منهم من مات وهو مديون أو في بيت إيجار أو منزله مرهون، لقد سمعت في حديث تلفزيوني قبل أيام في الميديا حواراً بين الأستاذ إبراهيم دقش وأمير عبد الله خليل تحدّث فيه عن وفاة السيد عبد الله خليل والإمام الصديق المهدي ومنزليهما بحي السيد المكي والملازمين مرهونين لتمويل الانتخابات وترك عبد الله خليل ديوناً أثقل فيها على كتف إبنه الوحيد، علينا بسيادة ثقافة “أرضاً ظروف يا حميدتي”، وقبل ذلك أن يكشف جميع المشتغلين في الحياة العامة وكبار المسؤولين في الشركات والأجهزة الأمنية عن ثرواتهم ومصادرها، حتى يستقيم العود ليحافظ على استقامة الظل ولنا في تجربة سنغافورة لمحاربة الفساد خير هادٍ.
أرعَى الأمَانَةَ لا أخونُ أمانتي
إنَّ الخؤونَ على الطريقِ الأنكبِ
وقال عبيد بن الأبرص:
إذا أنت حمَّلتَ الخؤونَ أمانةً فإنَّك أسندتها شرَّ مسندِ
23 يونيو 2022م