أيديولوجيا الغلابة…
مهدي رابح
إن الطغيان السياسي كثيراً ما يستند على نصوص عقائدية مثالية- أو أجزاء منتقاة منها- يجري تأويلها بما يلائم مشروع الاستبداد، وهذا ينطبق على جميع الديكتاتوريات دون استثناء، ماوتسيتونج الشيوعي، هتلر النازي، ستالين الشيوعي، صدام البعثي، بول بوت الشيوعي، البشير الإسلاموي، الأسد “الاب والابن” البعثي…
لكن النتيجة المأساوية في نهاية الأمر متشابهة بدرجة أو بأخرى، وتتمثل في حالة الحرب الدائمة ضد ما تيسر من أعداء خارجيين أو داخليين “حتى لا يعلو صوت فوق صوت المعركة” والقمع المفرط للمعارضين وتسييس الجيش وإغلاق الفضاء العام وعسكرته وانكماش مساحات حرية التعبير واستهداف الحراك المدني وسقوط أعداد مهولة من الضحايا (بالمليون ابن آدم: ماو 70، هتلر 40، ستالين 20، صدام 1.7، بول بوت 1.6، البشير 1.5، الأسد 0.5)، وهو ما يسمى بالفساد السياسي والذي يتداخل بالضرورة مع أشكال فساد أخرى اقتصادية وإدارية وغيرها ويتكامل معها.
ربما من بركات ثورة ديسمبر المجيدة أن مشروع الديكتاتورية العسكرية الحالي لا يمتلك حاضنة سياسية بالمعنى الحرفي للكلمة، عدا عن شبكات المصالح الطفيلية القديمة (بقايا الرأسمالية الأمنو- إسلاموية) أو الجديدة المتحالفة معها (بنظرة سريعة للنشاطات التجارية المشروعة وغير المشروعة الخاصة بمعدن الذهب يمكن استيعاب هذا المفهوم بيسرٍ كبير)، كما أنها، وبعد افتضاح خطل مشروع الإسلام السياسي ومدى ما يحويه من تدليس مستتر خلف أقنعة أخلاقية زائفة، فإن الطغمة الحالية تفتقد لأي غطاء أيديولوجي متماسك يعتدُّ به- أي نصوص عقائدية مثالية- لذا فهي تلجأ إلى ما أسميه بأيديولوجيا الغلابة المتمثلة في منظومة من المفاهيم والتصورات التي تسعى إلى تقسيم المجتمع أو ربما العالم بأسره إلى عسكريين ومدنيين، وهذا ما يفسر الفراغ الذي وسم الخطاب الكامن في مجموع المواقف التي يعبَّر عنها النظام الانقلابي مباشرةً كتصريحات الطغمة، ومستشاريهم الإعلاميين أو الصحف العسكرية والناطقين الرسميين أو عن طريق وكلائهم العديدين، خبراء استراتيجيين تلفزيونيين، أقلام صحفية مستأجرة، سياسيين متحالفين وأصحاب مصلحة في استمراره، أو فقط ماسحي جوخ أشقياء، وهو خطاب لا تقلِّل طبيعته المهترئة من خطورته لذا فهو في حاجة إلى تفكيك وتحليل مفصّل من قبل ذوي الاختصاص.
حسب تعريف نورمان فيركليف في كتابه (الخطاب والتغيير الاجتماعي) فإن الخطاب السياسي يعني التفاعل المعقد الذي عادةً ما يتجلى في علاقات متعارضة بين أناس يعيشون في المجتمع وتتعلّق أيضاً بالحكم أو التأثير والفوز والسيطرة وبالممارسات والسياسات من أجل تحقيق أهداف تتعلّق بقضايا معينة.
رهان أي خطاب سياسي هو اقتناع المتلقي بما يبثه المرسِل وانخراطه في مشروعه وتبني أفكاره وبرامج، وحال الخطاب الانقلابي الحالي في مجمله (أي الصادر من مختلف الفاعلين الانقلابيين) ليس استثناءً.
بالطبع لست هنا بصدد تحليل الخطاب في خصائصه الأيديولوجية والبراغماتية والبلاغية، فهذا عمل متخصّص دقيق لن يسعفني للقيام به لا جهلي الكبير بالمجال ولا طبيعة هذه الخاطرة الموجزة التهكمية إلى حدٍ كبير.
وبما أن النظام الانقلابي لا يملك في الحقيقة أساس أيديولوجي مثالي/ سحري يمكنه الاستناد عليه لشرعنة اختطاف الدولة أو لتبرير القتل والقمع والنهب الحالي فهو يكتفي بدلاً عن ذلك بخطابات متعددة وغير متناسقة، ربما الخيط الناظم الوحيد والرفيع الذي يجمعها هو اشتراكها في التعبير عن أعراض مرضية لمتلازمات ذات خصائص محدّدة سنربطها ببساطة بأمثلة لعدد محدود من الجمل الأيقونية التي أطلقت منذ مرحلة اعتصام القصر (المعروف شعبوياً باعتصام الموز) وحتى اليوم:
* (أبواب السماء مفتوحة- جبريل)- متلازمة الاجترار:
وتعرف بحالة يبصُق فيها الأشخاص مِراراً وتكراراً دون تعمُّدٍ (يعيدون) الطعام غير المهضوم أو المهضوم جزئياً من المعِدة، ويعيدون مضغه، ثم يعيدون بلعه أو يبصقونه وهنا أشير إلى محاولة إعادة إنتاج نسخة خرقاء من الخطاب الإسلاموي السحري وأكثر خطلاً.
* (التمطر حصو- حميدتي)- متلازمة الابتزاز العاطفي:
وهو أحد أشكال التلاعب النفسي- ويحدث خلاله استخدام منظومة من التهديدات وأنواع مختلفة من العقاب يوقعها شخص ما على آخر قريب منه في محاولة للسيطرة على سلوكه.
* (إن هناك بعض من قوى سياسية بعينها تعمّدت إقصاء القوات المسلحة من المشهد- برهان)- متلازمة مانشهاوزن بالوكالة:
وتسمى أيضا الاضطراب المفتعل المفروض على شخص آخر (FDIA)، هي اضطراب في الصحة العقلية حيث يقوم المريض باختلاق أعراض الأمراض مزيفة بشكل روتيني أو تتسبّب في ظهور أعراض حقيقية لدى شخص آخر ليبدو أن الضحية لديه مشكلة صحية جسدية أو عقلية حقيقية.
* (الليلة ما بنرجع إلّا البيان يطلع- توم هجو)- متلازمة ستوكهولم:
هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو مَن أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يُظهر بعض علامات الولاء له مثل أن يتعاطف المُختَطَف مع المُختَطِف، وتسمى أيضاً برابطة الأَسْر.
* (الوثائق التي تثبت فسادي ليس غرضها استعادة المال العام بل استعادة نظام الرق- أردول)- متلازمة الضحية:
تُفهم متلازمة الضحية في علم النفس على أنها حالة الشخص التي يبحث فيها عن شخص يلومه على اخفاقاته، ويبرّر نفسه ويلوم الآخرين على سوء المعاملة.
* (إن ما يحدث الآن ليس انقلاباً من قوة عسكرية على حكومة منتخبة أو مفوضة، بل هو خلاف بين الشق العسكري وشق مدني “يحاول الاستئثار بالسلطة”- الخبير الاستراتيجي اللواء عبد الباسط عبد الهادي)- متلازمة الانكار:
تُعَدُّ حالةُ الانكارِ في علمِ النفسِ رفضاً للحقيقةِ والواقعِ، ما يدفعُ الإنسانَ الذي يعاني منها إلى التظاهر بعدم وجود أية مشكلة في ما قد يواجهه من إحباط ومعضلات حياة جراء سوء اختياراته وقراراته مثلاً، كما أنه يلجأ إلى إلقاء اللوم على الغير وعلى الظروفِ وعلى كلّ ما يحيط به، ويفعل كل شيء عدا الاعتراف بأخطائه، فيلجأ إلى انكار المرض مثلاً أو الإدمان أو الجريمة.
السؤال الختامي المهم والموجه لرفاقنا في الصف المدني الساعي لإنهاء الانقلاب واستعادة مسار الانتقال الديموقراطي والذين يتبنون خطابات في كثير من الأحيان شبيهة للأمثلة المذكورة أعلاه هو: “أي متلازمة أصابتكم؟”، أو كمقولة العقيد القذافي المشهورة: “من أنتم؟”.
#مدنية
#يسقطحكمالمجرمين