الإطار والصور المتناقضة
خالد فضل
بادئ ذي بدء أترحم على أرواح الشهداء/ات الأبرار من بنات وأبناء شعبنا في كل جزء منه، أولئك الذين بذلوا أرواحهم فداء الحق في حياة تليق بالناس، وغاية ما يرجونه هو تحقيق تلكم الأحلام النبيلة، والعافية للجرحى والمصابين، العودة ومعرفة المصير للمفقودين والحرية للمعتقلين.
ثم، أرجو أن يقف منتقدو الاتفاق الإطاري الموقع بين نحو 50 كياناً مدنياً وفصيلين عسكريين؛ هما القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، عند حدود الرفض أو النقد البنّاء والهادف لنصوص الاتفاق، أو الظروف المحيطة به، أو عدم وجود ضمانات للالتزام به من جانب الموقعين كلهم وخاصة الشق العسكري، أو إغفاله لقضايا مهمة… إلخ دون الولوج لساحة التخوين أو التجريم للمدنيين الذين وقعوا هذا الاتفاق، مع التأكيد على الحق المشروع في التظاهر وكافة أساليب التعبير السلمية، والإدانة لكل العنف والانتهاكات التي ما تزال تمارس ضد المتظاهرين السلميين؛ فذلك أدعى لتطوير هذه الوثيقة في مراحلها اللاحقة- أو حتى إلغائها إن ثبت عدم جدواها- وأقرب لخلق روح جديدة ورفع وتيرة الحس الديمقراطي وتنشئة الأجيال الصاعدة على قيمها الأساسية، ومن أهمها قبول رأي الآخرين كجهد بشري قابل للصواب والخطأ، وقد أشار السيد فولكر بيرتس لذلك بوصفه للاتفاق بـ(غير المثالي)، مع طرح البدائل الموضوعية وحشد التأييد لها، وفي البال مواثيق لجان المقاومة الموسومة بـ(سلطة الشعب) يمكن النظر في أين يتفق المطروح وأين يختلف غض النظر عن التسميات، ودون اللكلكة في خانة لماذا لم تؤخذ هذه الوثيقة أو تلك، واتفق مع أستاذنا الحاج ورّاق في فكرة (استراتيجية موحدة لقوى الثورة بتكتيكات مختلفة)، ولكن في تقديري أنّ الجزء الأهم من أزمة بلادنا الوجودية يكمن في الحالة النفسية المضطربة في تكوين شخصيتنا السودانية، بحجم تناقضات غريب ومثير.
من تلك التناقضات الظاهرة يمكن ملاحظة أن قائد قوات الدعم السريع حميدتي يتحدث بلغة أقرب للصواب، يعبّر عن قضايا جوهرية بصراحة شديدة، فمثلاً يقول في خطابه إنّ ما حدث في 25 أكتوبر 2021م خطأ مما فتح الباب لعودة فلول النظام المباد، أو قوله (إنّ القوات النظامية تحتاج إلى إصلاح عمييييييييييق) هكذا يشدد الياء، وهو الموسوم بـ(المليشياوية)، وسبق له التصريح على أيام البشير، وفي حديث (المجمجة) المشهور الذي تداولته الأسافير (الحكومة بعد تسوي ليها جيش تجي تقابلنا)، فيما قائد الجيش النظامي المفترض عنايته بالأمر، يحوم حول مسألة الإصلاح دون إفصاح، القائد المليشياوي يقول بضرورة الاعتراف والاعتذار عن عنف الدولة ضد مكونات مجتمعها، والقائد غير المليشياوي يتحاشى ذلك، بل في تصريحات سابقة يلقي باللائمة على (طرف ثالث)، قوات الدعم السريع (الجنجويد ينحل) يمكن ملاحظة تطور في سلوكها تجاه الوفاء بمطلوبات جيش حديث، فيما هناك شكوك معقولة أنّ هموم الرتب العليا في الجيش الهمام تدور في الغالب حول مصالحها، حميدتي يتحدث بصراحة عن العدالة والعدالة الانتقالية، مع ملاحظة ذات قيمة بالمناسبة، وهي أن بعض المحاكمات النادرة لأفراد عسكريين أُتهموا باغتراف جرائم جنائية من قتل وتعذيب للثوار، تمت تقريباً كلها لأفراد من قوات الدعم السريع كما حدث في عطبرة والأبيض والخرطوم، فيما تبدو الحصانات أقوى لبقية منتسبي القوات الأخرى، وبقوة الحصانات تبعد العدالة عن التحقق، لهذا ليس غريبا أن يتم دعوة ممثلين للدعم السريع لحضور مؤتمر دولي حول قضايا الهجرة، ومن المؤمل أن ستستفيد هذه القوات كثيراً من مثل هذه المؤتمرات لتطوير ممارستها، وهذا هو الإصلاح المرجو في المنظومة العسكرية والأمنية، ويأتي من لدن شخص لم يدخل المدارس العليا أو كليات الجيش!! بما يثير السؤال المشروع حول جدوى هذه المؤسسات العلمية.
حميدتي نفسه كان قد عبّر في مناسبة سابقة عن موافقته على دمج أو تسريح قواته في حال تم التوصل لمثل هذا الاتفاق، وقد يقول قائل (إنّ هذه كلها خدعة من حميدتي) ثم يتم سرد سجل حافل من الانتهاكات، هذه فرضية موجودة ومعقولة على كل حال ويمكن التحسب لها، مع ملاحظة أنّ الدافع وراء مثل هذا التحليل لموقفه يسنده شعور (عدم الثقة) وهي حالة نفسية عامة بين معظم إن لم يكن كل مكونات مجتمعنا السوداني مع الأسف، ويمكن لحميدتي ببساطة أن يرد على موضوع (الخدعة) بأنّ القوى السياسية (برضو بتخدع الناس في مسألة الديمقراطية دي) وهي إحدى ظواهر تركيبتنا المتناقضة على كل حال، قادة الجيش في أكثر من مناسبة، يعبرون عن تمسكهم بما ورثوه، دون إبداء بادرة استجابة للإصلاح؛ وعلى أيام مهرجانات توقيع اتفاق سلام جوبا والحديث عن (هيكلة القوات المسلحة لتلبي مطلوبات القومية والمهنية) جاء رد رئيس هيئة الأركان في أثناء تدريبات مشتركة مع الجيش المصري بالولاية الشمالية (إنّ القوات المسلحة عصية على التفتيت أو إعادة الهيكلة).
ومن تناقضات الشخصية السودانية البائنة، نجد شخصا مثل وزير المالية د. جبريل إبراهيم، عندما سُئل في مقابلة تلفزيونية مع إحدى الفضائيات قبل بضعة أسابيع حول موقفه إن كان معارضاً أم مؤيداً للحكومة؟ أجاب دون تردد: هو أصلاً مافي حكومة عشان أكون معارض أو مؤيد لها. تخيل شخص يسافر ويأكل ويشرب ويخرج من منزله كل صباح ويعود من العمل أواخر الليل ومنصبه وزير يقول (هو أصلاً حكومة مافي)!!
ولا تنتهي تناقضات الشخصية السودانية، جعفر الميرغني مساعد عمر البشير حتى 11 أبريل 2019م وحزبه من منظمي حشد (تقعد بس) في الساحة الخضراء- سابقاً- وقادته يخاطبون الناس مع د. السيسي وتابيتا بطرس بتأييدهم المطلق لترشيح عمر البشير رئيساً (مدى الحياة) أو كما قال حاتم السر، في وقت كان سودان الداخل والخارج يصرخ في وجه الديكتاتور (تسقط بس) والناظر القبلي (ترك) عضو المجلس الوطني فرع المؤتمر الوطني، هذان الشخصان يكونان مع د. جبريل ومني مناوي (حرية وتغيير) وديمقراطية كمان!! ثم يعلنان انضمامهما للمتظاهرين ضد الإتفاق لحين إسقاطه خلال 3 أشهر!!!
وليرحم الله محجوب شريف:
ح: حرية
ت: تغيير
هذه مع الأسف هي بعض الصور داخل الإطار السياسي السوداني، تناوش على (جيفة) وتهارش على (شلو)، وتناقضات متواصلة، نخجل حقاً مما نحن فيه، هل لدينا حقاً وطن؟؟؟؟؟؟؟