سامحنا يا أستاذ
خالد فضل
في مثل هذه الأوقات تقريباً من العام 2012م، كنت وزميلتي الصحفية المرموقة صباح آدم نحط في مطار برلين؛ كانت رحلة عمل بدعوة من مؤسسة فريدريش آيبرت الألمانية، أتاحها لنا مكتبها في الخرطوم، وموضوعها كان عن (الطاقات المتجددة)؛ تلك التي صارت واقعاً حتمياً في السنوات الأخيرة.
أمام موظفة الجوازات الجميلة وقفتُ، أتأمل (خلقتي) المبشتنة، مددتُ بجوازي والقلب يخفق- من رهبة- حتى لا يسرح بال من في قلبه رهافة!! أمسكتْ أناملها بالجواز صارتْ تنظُر إليه بإبتسامة تزداد اتساعاً، وخفقات قليبي تزداد وجيباً، نادت على زميلها في كابينة مجاورة بإشارة من يدها فحضر للتو ووقف خلف كرسيها، قالت لي وساوسي: لابد أنّك مسجل خطر على الأمن القومي الألماني والأوروبي والعالمي كمان، فأنت قادم من بلد موبوء بفيروس (الكوزونا)، لكن من دهشتي؛ تحولت إبتسامتان صافيتان تجاهي، وبصوت واحد هتف الموظفان بإنجليزية ألمانية (teacher) مرحباً بك!!! يا إلهي، فمهنتي في الجواز هي سبب كل هذا الاهتمام، وصاحت في تجاويفي كل حسرات الأسف على حال المدرّس في بلادي والمدرّسة. ودارت في مخيلتي أبيات المدرّس عمر الطيب الدوش:
يا تلاميذي العُزاز
خلوا بينكم وبين رنين الضحكة صرخة
حُب مهان والصبر أوْلى
خلّوا بيني وبين جنون الخيبة شوْلة
واكتبوا
عاش في زمن المذلّة المدعو طه ود خدوم
باع تفاصيل الكآبة عشان يفرّغ وتاني يملا
جاع وخيرك يا سعاد مردوم ردم
وكان الدوش يعنون طه المدرّس ود خدوم لما يختلج في جوانحه شان (البت سعاد)! رحم الله الدوش ضجة الإبداع بلا سواحل.
وخرجنا من المطار، وضمن البرنامج المصاحب للورشة زيارتنا لمقر البرلمان (البوندستاج)، طفق الموظف يشرح كل شئ عنه، حتى رواتب الأعضاء، هنا تنحنح، وقدّم فذلكة مطوّلة عن أهمية دور العضو البرلماني، وكيف أنّه يمثل السلطة التشريعية والرقابية وهو المعبّر عن تطلعات ناخبيه، ويتفرغ لتلك المهمة مضحياً بعمله الخاص… إلخ لذلك فإنّ مرتبه (5000) يورو يقارب مرتب (ناظر) المدرسة الإبتدائية. قال يقارب ولم يقل يساوي فتأمل!.
قلت في سرّي، ما أهونك يا ود فضل في بلدك الفضل، ما أهون المدرسين في أم دافوق والباو ودرديب وأبو جبيهة وعبري وأم بادر وغرب أم درمان وضهاري المناقل وود نعمان!! يستكثرون عليهم ما يعادل المائة والمائتي دولار، وموظف العلاقات العامة في البرلمان الألماني يكيل الأعذار ليبرر تقارب راتب عضوه مع راتب المدرّس الألماني (مُش ود خدوم)، الآن عرفنا سبب تقدمهم وتأخرنا، ومالنا نذهب بعيداً، والعاجز منّا يقول: هوي يا زول ما تقارنّا بالعالم الأول، وهل وُلد العالم الأول أولاً؟ أم أنّه سعى في الدرب الصاعد حتى نال الأولية، وعلى درب الصعود عبر سلّم التعليم كفاءة وكفاية سارت الشعوب المماثلة لنا فبلغت شأواً، ماليزيا، ورواندا، وجيبوتي ومدغشقر وتشاد وبوركينا فاسو وبنين وحتى الصومال وقطاع غزّة!.
انظر عافاك الله من سقم العقول ورمد العيون، لتعرف كم تخصص في ميزانياتها وناتجها القومي لقطاع التعليم، هنا سنصل إلى النتيجة ذاتها التي دعت المعلمين/ ات في مختلف أنحاء السودان للإضراب عن العمل وإغلاق المدارس، ليسوا هواة عطلات، وليس لديهم فوائض يمضون بها رحلات ترفيه، لكنه الواجب الأخلاقي جعلهم يقفون هذا الموقف الحازم تجاه السبهللية واللامبالاة التي تتعامل بها سلطات كلها انقلابية منذ عهد المخلوع البشير وحتى نهار البرهان وتابعيه.
التعليم حق أساسي مضمن في منظومة حقوق الإنسان على مستوى العالم وفي قانون الطفل في السودان، فلماذا الجلبة واللف والدوران؟.
نعم من المؤلم حقاً للأسر تعطيل الدراسة لأطفالها، ولكن من الأكثر إيلاماً أن يتم إذلال المعلمين هكذا وكأنهم فائض عمالة أو جيوش عطالة؛ مثل تلك التي تزخر بها مهن أخرى تقضي على الحياة فيما التعليم يهب الحياة وينير حالك الدروب.
التحية مجددا للمعلمين/ ات في صمودهم الباذخ من أجل السمو ببلادهم عبر الطريق الصحيح، المجد لشهداء الثورة السودانية، وللشهيد المعلّم أحمد الخير، وسامحنا يا أستاذ.